strong>صباح أيوبيعرفها مشاهدو التلفزيون الفرنسي جيداً، في فرنسا وعبر العالم. لكن قلّة كانت، قبل صدور كتابها، تعرف قصّة هذه الإعلاميّة التي اقتلعت من بلدها، فحملته معها أينما ذهبت. ناهدة نكد التي تقترب من الخمسين، «هزمتها» الحرب اللبنانيّة في السبعينيات، فصارت بينها وبين الحروب علاقة خاصة. راحت تطاردها في كلّ مكان، كما لتهزمها جميعاً. عملت مراسلة حرب لتنفّس عن غضب عارم، وكتبت لتكفّر عن «ذنب» اقترفته، يوم تركت وطنها بمن فيه، في عزّ الحرب.
«من الصعب أن تبدئي حياتك بالهرب»، تقول ناهدة نكد التي لا تنسى ذلك اليوم من عام 1975، حين حزمت حقائبها وسافرت. في البداية، حاولت الابنة الصغرى أن تكذب على أهلها الذين كانوا في إيطاليا، راحت تُطمئنهم بأنّ «الحرب بعيدة... نحن بخير»! في الواقع، كانت تسكن مع أخيها مروان عند تقاطع «غاليري سمعان»، أي على خط التماس. يعلو صوت القصف فترفع صوت الموسيقى في المنزل. تنجو بأعجوبة من رصاص القنّاصة بين الشيّاح وعين الرمّانة، فلا تخبر أحداً عن الأمر. لكن تلك الحالة لم تدم طويلاً: لقد افتضح أمرها في النهاية وأدرك والداها خطورة البقاء في بيروت: «رنّ جرس البيت، فتحت، وإذا برجلين أحدهما ضخم كالحائط يسلّم أخي بطاقتي سفر إلى روما... وغادرنا في اليوم التالي». لم تكن تلك المراهقة تتصوّر أنها يمكن أن تترك البلد حيث الجدّة «التي تعبدها»، والحبيب الأوّل، والأصدقاء الكثر. تشرد بعيداً وهي تستعيد ــــ بعد 34 سنة ــــ لحظات الرحيل. تفضحها غصّة في الحلق... لم تتمكّن ناهدة يومذاك، حتّى من توديع أصدقائها. ابنة موظّف «طيران الشرق الأوسط» اعتادت التحليق فوق الغيوم، لكنها هذه المرّة لا تريد أن تفرد يديها واسعاً مع جناحي الطائرة، ولا تريد أن تجلس في مقصورة الكابتن، ولا تريد أن تطأ قدماها تلك الأراضي البعيدة الغريبة. ابنة الـ15 عاماً أحسّت بالغربة لحظة مغادرتها تقاطع غاليري سمعان. من هنا بدأت رحلة «الهروب». المحطّة الأولى كانت روما، فيها عاشت تمزقاتها، وحدها مع «روحها المضطربة»، ما صعّب الاندماج في المجتمع والمدرسة. مالت ناهدة يساراً، وصادقت الخوارج والمتمرّدين. تابعت أخبار الحرب من بعيد، فثارت وشاغبت وأرادت العودة... لكن الطائرة أقلّتها هذه المرّة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
«أميركا أنقذتني» تقول ناهدة اليوم. فيها وجدت ابنة السابعة عشرة استقرارها النفسي في بلد الحريات، واسترجعت استقلاليتها. التحقت بالجامعة حيث تنبّه أستاذها لإمكاناتها اللغوية (تتقن اليوم 5 لغات)، وتحوّلت من دراسة العلوم الاجتماعية إلى الصحافة والعلوم السياسية. نحن في 1979، عام الثورة الإيرانية وفورة الحركات الطالبية. وها هي نكد تعمل في إذاعة الجامعة، وتنظّم المحاضرات وتقود التظاهرات مع أصدقائها الشيوعيين الأميركيين، دعماً للقضية الفلسطينية. تدخل في جدل مع الإيرانيين الموالين للشاه، وتحاول أن تفهم الأميركيين حقيقة الوضع في إيران. «اكتشفت حينذاك مدى محدودية تفكير الأميركيين الشباب»، تقول. الطالبة العربية الثورية أزعجت الكثيرين من حولها... ذات مرّة وضعوا لها ثعباناً في سيارتها. في تلك الفترة، استغلّت نكد برنامجاً أكاديمياً للتبادل الطالبي لتذهب إلى... بيروت. عادت الطالبة الشابة إلى لبنان عام 1979ــــ1980، أكملت دراستها في الجامعة الأميركية، وكوّنت صداقات جديدة. لكن بيروت نكأت جراحات قديمة. بعض الأصدقاء القدامى رفض أن يكلّمها... لأسباب طائفيّة! وهناك آخرون لم تجد لهم أثراً. بعد الجامعة، عملت ناهدة مع مجلّة «الحوادث» من لندن. «المجتمع الإنكليزي علّمني الكثير» تقول. غطّت الصحافية المبتدئة مواضيع اجتماعية وثقافية في لندن. وبعد «الحوادث»، عادت إلى إيطاليا حيث تعرفت بالمصادفة إلى مدير مكتب قناة TF1 الفرنسية في روما. تتلمذت ناهدة على يدي جان بيار بالو ثم أُغرمت به وتزوّجا. بداية ناهدة نكد مع المحطّة الفرنسيّة الأولى كانت من بيروت. أرسلت إلى «بيروت الغربية» في عزّ قضيّة الرهائن الفرنسيين والأميركيين. هكذا غطّت أحداث المدينة التي كانت الأنظار مسلّطة عليها من العالم أجمع... وعندما عادت إلى باريس كانت قد أصبحت صحافية لامعة، تسكن وجدان المشاهد الفرنسي كصاحبة الصوت الآتي من حرب لبنان. وفي عاصمة الأنوار وجدت طريقها، واتخذت قرارها: «أنا المرأة التي تركت بلدها في عزّ الحرب، سأنذر نفسي الآن لتغطية الحرب أينما كانت». ذهبت ناهدة إلى رواندا حيث اقتربت من الموت، وتعرّضت للضرب مع فريق العمل. هناك ندمت للحظة على قرارها، كما تعترف اليوم. لكنها تخطّت التجربة وذهبت إلى الكونغو، ثم إلى الصومال «الأصعب والأبشع» كما تصفها حيث قتل مهندس الصوت إلى جانبها. بعد الصومال، لم تتردد بالذهاب لتغطية الحروب الصربية «كان الوضع هناك شبيهاً بحرب لبنان، ما زاد من حماستي». عاشت ناهدة في ساراييفو الحرب التي «هربت منها»، فنقلت مآسي الناس من الطرفين، وكان الرحيل صعباً عليها.
تروي أنه عندما عرضت عليها القناة أن تخضع لعلاج نفسي، رفضت وفكّرت: «جدّتي عاشت في بيروت تحت القصف، لم يعرض أحد على اللبنانيين أي علاجات نفسية بعد الحرب». من الحروب تعلّمت ناهدة «دروساً في الحياة»، كما تقول، لكنها لم تشف منها أبداً. تزوجت ناهدة من جان بيار في عام 1992. في عام 1996، غطّت مجزرة قانا الأولى وبكت طويلاً. وفي 2001، وقفت عند بوابة فاطمة تنقل الانسحاب الإسرائيلي، حصل إشكال على بعد أمتار منها، هرع الصحافيون لكنها بقيت مسمّرة في مكانها: «شيء ما داخلي تحرّك ولم أشأ أن أتوجّه إلى مكان الخطر، علمت في تلك اللحظة أني أحمل طفلاً في أحشائي». رزقت ناهدة بألكسندر في عام 2001. ومنذ ذلك الحين، باتت تقتصد من مهماتها الحربية «لا أريد أن يعيش ابني هاجس فقدان أمّه». في عام 2004، قررت أن تعود إلى حربها الأولى... من باب الكتابة. نبشت الذكريات، وتقصت المعلومات، واكتشفت أنّ أصدقاء «غاليري سمعان» إمّا قُتلوا في الحرب، وإمّا قَتَلوا آخرين بعد انخراطهم في الميليشيات. أفرغت ناهدة غضبها من أهلها، ومن بيروت، ومن أصدقائها ومن الرجل الذي حمل تذاكر السفر، ومن الحرب، في كتاب بالفرنسية عنوانه «بحثاً عن لبنان الضائع» (Calmann – Lévy) لم يبق لناهدة نكد اليوم في لبنان سوى القليل من أصدقاء «الزمن الجميل». ربما لهذا، لا تزورنا إلا في مهمات عمل، وربما لهذا لا تتحدّث عن لبنان أمام ألكسندر، ربما لكل تلك الأسباب لم تسامح ناهدة نفسها بعد.


5 تواريخ

1960
الولادة في عبيه قضاء عاليه

1975
اندلاع الحرب اللبنانية التي أجبرتها على ترك البلد

1986
بداية مشوارها مع TF1 الذي دام أكثر من 20 سنة

2001
رزقت بابنها ألكسندر

2009
عُيّنت مديرة القسم العربي في الهولدينغ الذي ينظّم حضور الإعلام الرسمي لفرنسا في العالم، في المجالين المرئي والمسموع : AEF Audiovisuel
extérieur de la France