نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

هل حقاً زيارة الممثلة هند صبري إلى رام الله تطبيع؟ وهل إرسالها صوتها وصورتها عبر الفيديو، كما يقترح عليها الصديق سماح إدريس، ليس تطبيعاً، فينحصر هذا في تنقّلها الجسدي فحسب. ولماذا ذلك؟ بعيداً عن الفكاهة، تُطرح هذه المسألة، بتنويعات لا حصر لها، كلّما وقعت حادثة مشابهة. أو للأدق، كلما ظهر التعقيد الذي توجد فيه الحالة الفلسطينية. ولكن المشكلة تقع في النقاش نفسه قبل الواقع. وهو ما يظهر دوماً، في أكثر من مكان، وخاصة على صفحات “الأخبار” نفسها، بسبب شدّة حماسة بيئتها. فإذا تغاضينا عن الانفعالية التي تسيطر على من ينخرط في النقاش، فما يظهر هو الخلط المقلق بين الحجج، ما يجعل المنطق السياسي الحاكم للموقف المدين للتطبيع يضيع تماماً.
نخوض بوجه إسرائيل معركة إشاعة وتسييد مقاطعتها، ومقاطعة كل ما يصدر عنها في جميع الميادين. ولكنها معركة تندرج في هدف استراتيجي هو تفكيك رسوخ لامسؤولية إسرائيل، والاستثنائية التي تحيط بها، وهما مقرّتان عملياً وواقعياً في العلاقات الدولية السائدة. وهما ـــــ تلك اللامسؤولية وتلك الاستثنائية ـــــ متّصلتان، كما تمتلكان جذوراً تضرب عميقاً في أصل النظرية الصهيونية نفسها، وفي نسيج الموقف الدولي المؤيد لها. وبدونهما تنتهي إسرائيل، وليس أقل من ذلك! ولكنّ المقاطعة والمحاسبة نفسَيهما ليستا ديناً. إنهما أدوات في معركة. أدوات تُحسب فاعليتها باستمرار، وتُطوّر وتُعدّل بناءً على هذه الحسابات. ولعل غيرها يُطرح عند تغيّر الشروط.
وما ينبغي التذكير به بدايةً، وقبل كل شيء، هو أن دائرة التطبيع ومعها المقاطعة، تخصّ إسرائيل نفسها لا القوى السياسية الفلسطينية المختلفة في ما بينها، أياً كانت، وكائنةً ما كانت خلافاتها. الصلة بالسلطة الفلسطينية ليست تطبيعاً مع العدو! شخصياً، أعتقد أن السلطة، كدينامية، باتت تحتل موقع التوسّط بين الاحتلال والمجتمع الفلسطيني. وإنْ كان هذا التوسّط غير مكتمل بعد، وما زالت تعتريه مقاومات له، أو على الأقل عرقلات، وقلق فظيع، وفرز لا بد سيقع. لذا قلت ديناميتها، بمعنى الوظيفة الموضوعية التي تؤديها، بغض النظر عن الإدراك الذاتي نفسه، وعن نيات هذا أو ذاك من قادتها وكوادرها والعاملين فيها، وعن التفاعلات التي يمكن أن تقع، وعن المآلات المتعددة التي لا يمكن حسمها بشحطة قلم خفيفة... ومتخفّفة من عبء هذه الصيرورة الدرامية.
وأمّا تسوية المستويات كلها عند صعيد واحد، فأمر خطير. سأستعيد هنا جملة هي من آيات التفكير الديالكتيكي ومن عيون العقل السياسي الاستراتيجي، قالها الإمام علي بن أبي طالب جريحاً، داعياً إلى عدم الانتقام من الخوارج الذين اغتالوه: “ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه”. السلطة الفلسطينية التي أنشأتها اتفاقيات أوسلو، هي محصّلة صيرورة يجب ألا يُنسى أبداً أنها بدأت صبيحة ذلك اليوم الأول من عام 1965، مع انطلاقة العمل الفدائي. وأن آلاف الشهداء سقطوا في السياق، ومنهم قادته أنفسهم، أو أغلبهم، وأن هناك اليوم فارقاً بين حفنة، لا شك في أنها محدودة، باتت مرتبطة مصلحياً بالاحتلال ـــــ نفوذاً ومنافع ـــــ وبين الأغلبية العظمى ممن يندرجون في إطار السلطة بأشكال شتى، ولكن يأكلهم اليأس والإحباط، أو الفقر وانعدام الحيلة، ولا يرون أفقاً آخر أمامهم إلا التسليم بالأمر الواقع. وهذه ليست دعوة للتساهل مع السلطة أو للتسامح معها، أو للتقليل من شأن مجابهتها، بل هي تعيين لطبيعة المشكلة المسمّاة “سلطة”، حتى يمكن التعاطي معها بما يلائم خاصياتها. ومن غير ذلك، فما أسهل الأمور!!
من هو الثوري اليوم؟ هو ذاك الذي يمكنه أن يبرهن على وجود خيارات أخرى ممكنة غير الخيار السائد. من يمكنه أن يعيّن طريقاً يمكن السير به، ويوضح كيف سيقود هذا الطريق إلى تغيير الواقع الراهن، عبر الفعل في توازناته وصولاً إلى وضع مسار الواقع في وجهة أخرى. السلطة تنتهي رويداً وكيلاً عن الاحتلال؟ المطالبة النضالية الملحّة، التي تحفظ في الوقت نفسه الفوارق بين طبيعة المواقع، بين إسرائيل وسائر المعطيات المتصلة بها (بما فيها السلطة، والأنظمة العربية المحيطة بفلسطين أو المؤثرة في شأنها)، هي تلك الداعية إلى الضغط على السلطة الفلسطينية من أجل إجبارها على إعلان حل نفسها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليوضع العالم كله بمواجهة مسؤولياته. فإن فعلت، في سياق الاستعصاء القائم حول مشروعها، فذلك نصر. وفي كل الأحوال، فالمسألة اليوم هي اتخاذ الفلسطينيين أنفسهم، جواً عاماً وقوى سياسية وفكرية، قراراً يعلن انتهاء عهد قبول “إدارة الصراع” كأفق للعملية السياسية الفلسطينية، وأن يفجّروا، عبر إنهاء هذه اللعبة القذرة، أزمة ليست قابلة للاحتواء بالخزعبلات من قبيل “خطة الرباعية” واتفاقيات شرم الشيخ... إلى آخر العناوين الفارغة. أن يعم “خوض الصراع” وإبقاؤه حياً، وأن يُبحث عن الكيفيات.
ولكننا ما زلنا بعيدين عن هذه السويّة، بل إن عناصر معركة “حل السلطة” لمّا تتبلور بعد، وبالكاد بات الشعار/ المطلب متداولاً، شاقاً طريقه إلى مخيلة الناس. وعلى من يريد أن يسهم في تقدم الوضع الفلسطيني أن ينكبّ على تظهير هذه المعركة، ليس كموقف أخلاقي ومبدئي يُعلن والسلام، بل كجزء من عملية توليد المشروع الوطني الفلسطيني. وأما أن يكون “كله عند العرب صابون”، وأن يُرى أن الأدوات المطلوبة في مجابهة إسرائيل هي نفسها التي يمكن تطبيقها في المعركة مع السلطة، فكارثة بذاتها.