ناهض حتر*المثقف العربي مضطر للانزواء في خندق. وبذلك يفقد ما هو أكثر من دوره اللازم في تجاوز الانحطاط إلى النهضة، بوصفه ناقداً مؤهلاً من موقع رؤية شمولية. إنه يفقد قدرته على الإبداع وحتى ذكاءه. والتخندق، بالطبع، هو غير الالتزام. فلا ممارسة مثقفية من دون التزام لا يضيّع الضفاف. لكن شرط الالتزام هو الحرية، وشرط حرية المثقف هو الحق غير المجزوء في الاعتراض.
في بلادنا التي لا تزال تستمرئ الانحطاط المديد، لا حاجة للممارسة المثقفية. لا تحتاجها السلطة ولا المعارضة. السلطة، المكتفية بعبقريتها عن كل استشارة ــــ ما لم تكن «خبرة» من مستشارين أجانب ــــ تحتاج فحسب إلى إعلاميين يحسنون الدعاية وتخريج المواقف وشن الحملات. وهي تسمح، في حدود معينة وفي ظروف خاصة، بالنقد الصحافي الذي لا يتجاوز الفروع إلى الأصول. أما المعارضة، فيكفيها من مثقفها، وهو عادة من أرباب المهن الفنية الخاصة (كالمحاماة والطب والهندسة الخ) أن يحفظ عن ظهر قلب ويردّد ملء صفحة من شعارات متفق عليها، كليشيهات صالحة لكل زمان ومكان. وهؤلاء الذين، بسبب استقلالهم المعيشي، ينخرطون في هيكلية سلطة المعارضة، في النقابات والهيئات والجمعيات، سيجدون أنه من الآمن التقيّد الحرفي بكليشيهات المعارضة لسببين، هما أن هذه الكليشيهات مقرّة ومشغولة أصلاً للتمايز، ولكن لتلافي الاصطدام بسلطة الحكم، وأنها لا تتطلب جهداً ولا نقاشاً ولا تستجلب نقداً.
الآلاف من الأكاديميين ينزوون في تخصصاتهم بلا فعالية من أي نوع. إنهم يدورون حول أنفسهم في شقاء ذاتي متصل، يشعرون بأنهم بلا فائدة، فيكفّون عن تجديد قدراتهم، ويدخلون في دائرة الصراعات الوظيفية. السلطة لا تستشيرهم إلا كإعلاميين، أو توزّر بعضهم لأسباب لا تتعلق بالكفاءة المهنية أو الرؤية. أما المعارضة التي أنجزت درسها فلا تريد معلمين ولا محاورين ولا أفكاراً. ومن جهتهم، فإنهم، ما عدا استثناءات معدودة، لن يأخذوا زمام المبادرة في ممارسة مثقفية لن تقودهم إلا إلى البطالة. بالمقابل، تستعين السلطة بخبراء أجانب يملكون حرية المكاشفة ويتقاضون أجوراً عالية. ويمثّل ذلك موضع حسد الخبراء المحليين، من دون أن يتنبهوا إلى أن الخبير الأجنبي ليس مواطناً، وتدخّله في شؤون الدولة لا يرتّب له موقعاً ولا حقوقاً سياسية. وهو، إلى ذلك، رسول شفاعة لدى الغرب. القوى السياسية نفسها، في السلطة والمعارضة، لا تمارس السياسة بصورة جدية. فالسياسة عند الفريقين لعبة مسرحية ليس بالضرورة أن تكون مبدعة أو حتى متقنة. يكفي أن تنشئ سياقاً لإخفاء المقاصد الجدية التي هي ما دون سياسية، أي إنها تعبّر عن مصالح فردية وعائلية وشللية وعصبوية، وفي الأخير، جزئية، لا تحتاج إلى فضاء عام يجعل من السياسة مطلباً. بذلك تسقط الأيديولوجيا بوصفها تنظيماً فكرياً لمصالح اجتماعية تاريخية في فضاء دولتيّ، يظل منها ما يصلح للدعاية أو للتحصّن الذاتي، لا يصدّق مكررو خطاباتها ما يقولونه.
وسط هذا الفراغ المستنقعي، حيث مثلث المصلحة والخطاب والسياسة منفسخ الأضلاع: المصلحة أصغر من الخطاب، والخطاب خارج الممارسة السياسية، والأخيرة مجرد ممارسة فنية وأمنية، وسط هذا الفراغ، يبرز الصحافيون ويحتلون مساحة أكبر من أحجامهم الواقعية. الصحافي ــــ وأنا أشير إلى المهني، المستقل، الانتقادي ــــ ليس إعلامياً ممجوجاً ولا مثقفاً ممنوعاً. إنه عز الطلب للسلطة والمعارضة، إذ يمنح الأولى بعض الصدقية، ويمنح الثانية متنفساً وتنويعات على كليشيهاتها.
من تحليل تجربتي الشخصية الطويلة في الكتابة الصحافية المنتظمة المقروءة على نطاق واسع في بلد نصف ديموقراطي، وجدت أن استراتيجية الكتابة تظل، حتى من أقصى موقع نقدي ممكن، محكومة بتكتيك سلطوي صارم. فلكي تحصل على مكانتك كصحافي، عليك أن تكتب بانتظام وتمارس النقد. لكن، لكي تؤمّن هذين المطلبين، فإنك ملزم بالتحرك في إطار الثوابت السلطوية، فلا تتعداها من جهة، وبعدم التعرض لكليشيهات المعارضة، فلا تفككها من جهة أخرى. وبالمحصلة، ستجد نفسك تلعب دوراً متفقاً عليه. وكل ما يمكنك فعله هو التفنن في هذا الإطار.
عندما أوقف عمودي اليومي في أيلول 2008، شعرت بالغضب. لكن، شيئاً فشيئاً، أدركت أنني، في كتاباتي، تجاوزت شروط اللعبة، فكان لا بد من الحكم علي بمغادرتها. وأنا لم أتجاوز تلك الشروط في العمود نفسه، فهذا صعب جداً، ولكن في ممارسات سياسية وكتابات في أمكنة أخرى. تقتضي اللعبة ألا تنجر إلى أن تأخذ كتاباتك بجدية، بمعنى أن تنظمها في سلك الاعتراض. بذلك، تضع نفسك بنفسك خارج «السستم» (النظمة). المشكلة الأعوص هي مع المعارضات. فسلطتها أقوى من سلطة السلطة. الثانية قادرة على منعك أو تجويعك أو سجنك أو حتى قتلك، لكنها، بافتقارها إلى الهيمنة المعنوية والأخلاقية، لا يمكنها، كالمعارضات، قتلك معنوياً، أي مواجهة الممارسة النقدية بالإلغاء.
كصحافي وناشط معاً، اشتغلت منذ عام 2003 على خط الدفاع عن المقاومة العراقية، ومن أجل تظهيرها وتأكيد دورها الإقليمي في مواجهة الطمس والتشويه. وسجلت هذه التجربة في كتاب خاص، إلا أن أطرافاً عدة في هذه المقاومة، لم تحتمل ممارستي حقي، ومن موقع مقاوم، في نقد خطابها وسلوكها السياسيين، اللذين رأيت أنهما انزلقا إلى التخندق في موقع الحرب الأهلية بدلاً من استخدام ثقل المقاومة المعنوي في عملية سياسية وطنية تعمل على تجديد وحدة المجتمع العراقي في نظرة شمولية. وكانت النتيجة سلسلة من مقالات التخوين. وبذلك اضطررت للانسحاب من التفكير والنشاط في الشأن العراقي، لا غضباً، ولكن بسبب انعدام إمكانية الفعالية. وبالمقابل، إذ سبرتُ كل الأبعاد التاريخية الممكنة للمقاومة اللبنانية، وخصوصاً في حرب 2006، في مقاربات جديدة نُشرتْ في كتاب، فقد كان النقد الاجتماعي ــــ السياسي ــــ الثقافي الذي وجهته إلى حزب الله كفيلاً بتصويري كـ«قشرة معادية للمقاومة ترطن يساراً». وفي الحالتين، هناك مشترك هو: معنا أو ضدنا! على المرء أن يكون سنياً طائفياً لا يرى في قضية العراق سوى عودة حكم البعث، ويناقض نفسه في لبنان في الوقوف ضد حزب الله، أو طائفياً شيعياً يسبّح بحمد الحزب فلا يرى طائفيته ولا دعمه للقوى الليبرالية الكمبرادورية، فكراً وممارسة، وبحمد إيران وبرنامجها النووي الذي لا بأس أن يكون ثمنه، كما قال لي قيادي في حزب الله مرة، رأس الشعب العراقي. لماذا؟ النووي الإيراني سيحسم الصراع مع إسرائيل! ونعود بعدها للشأن العراقي.
السياسة الواقعية ملأى بالتناقضات. ويقتضي شرف المثقفية إبرازها لا طمسها: يلعب حزب الله في لبنان دورين مزدوجين، دور المقاومة البطولية ضد إسرائيل ودور دعامة النظام، وذلك لأن الأولوية عنده هي للطائفة لا للبنان. فهو يستخدم المقاومة لتحسين شروط الطائفة في هيكلية النظام الطائفي، وبالعكس. ينطبق ذلك أيضاً على المقاومة السنية في العراق. إلا أن الأخيرة،

استراتيجية الكتابة تظلّ، حتى من أقصى موقع نقدي ممكن، محكومة بتكتيك سلطوي صارم

بسبب حجم العراق واستحالة عودته إلى نظام بعثي أو لبننته في نظام طائفي، هُزمتْ سياسياً، رغم أنها حققت إنجازات عسكرية ضخمة. القضية الفلسطينية هي قضية العرب، ولكنها، بالذات، قضية أردنية. فمن دون تفكيك الكيان الصهيوني، أو على الأقل لجمه وإجباره على الرضوخ لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، فإن حظوظ الدولة الأردنية في البقاء تغدو ضعيفة. الدفاع عن خيار المقاومة الشاملة، والتأكيد على أولوية حق العودة، والتحشيد السياسي الفعلي في هذا السياق، مهمات تستلزم التصدي للسياسات الرسمية الأردنية والفلسطينية، مثلما تستلزم نقد الميول التوطينية المشفوعة بنزعة المحاصصة لدى أوساط واسعة من فلسطينيي الأردن. لكن التطرق إلى هذه القضية الملتهبة التي تكاد تشق الدولة الأردنية ممنوع ومجرّم بـ«العنصرية» من جانب السلطة والمعارضة.
تلعب حماس دوراً رئيسياً في الاعتراض الفلسطيني على الاستسلام. ولكن الاعتراض على تحويل غزة إلى إمارة طالبانية تشوّه خط المقاومة مشروع أيضاً.
الأردن دولة مقتطعة من سوريا؟ صحيح. لكنه بلد له شخصيته الوطنية وقدراته. الأردن محكوم باستراتيجيات مضادة لوجوده ونهضته، وهذا لا يمنع أنه بلد محدّث وذو فضاء دولتي محتشد بالإمكانات. هذا هو الواقع المتناقض. ولمَ لا؟ عشائر ويسار؟ هذا ليس اختراعاً مذموماً، بل ظاهرة للفهم والعمل. أنا يساري، ولكنني لا أرى إمكانية لتحويل اليسار إلى قوة تغيير حقيقية إلا في فيدرالية الهلال الخصيب. لماذا علي أن أكون شيوعياً كما هو الشيوعي التقليدي الستاليني المعادي للقوميين السوريين؟ ولماذا يتوجب علي الخيار بين وحدة الهلال الخصيب والشيوعية؟
لا يستطيع عربي، بمعزل عن دينه وأيديولوجيته، أن يفكّر خارج الإسلام، ولكن ليس بالضرورة داخل الفقه والشريعة والمذهبية والتعصب الديني. وليس، بالضرورة، خارج العلمانية.
الحياة الواقعية، كما الفكر الحيّ، تناقضات. وتناقضات في التناقضات بلا نهاية. ومهمة المثقف هي الكشف عن هذه السيرورة. فبكشفها تتولّد أفكار التجاوز وإمكانياته. وهي مهمة لا بد من النهوض بها مهما كان الثمن.
* كاتب أردني