هشام نفاع*ربما كان من غير الصعب استحضار أهمية القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اليوم، لو عرضنا الحالة السياسية الفلسطينية الداخلية. فهي تعاني إجمـالاً في عمق عوارضها، من غياب القيادة. وإذا كانت العوارض تتألف من انقـسام لم تشهد له المسيرة السياسية الفلسطينية مثيلاً، تخبُّط في مسألة الربط بين التفاوض السياسي والمقاومة، فشل في استخدام البنادق بما يلتقي مع الأهداف السياسية، نشوء سلطتين لا تريان غالباً أبعد من أنف مصالحهما الفئوية ـــــ إذا كانت هذه هي العوارض، فلا شكّ أن الحالة مقلقة، وهي كذلك فعلاً.
لا تنوي هذه المقالة عرض محطات تاريخ عرفات بتوسّع ولا تحليلها بعمق. بل هي محاولة لفهم الحالة الراهنة بما يرتبط بغياب هذا القائد. فحتى في الفترات التي شهدت نقاشاً فلسطينياً داخلياً معقداً، ظل حضور عرفات وتجربته التاريخية يمنعان الانزلاق، ويلملمان ما بقي من منظمة التحرير الفلسطينية التي تهشّمت في
أوسلو.
لن يكون من التجنّي الاستنتاج اليوم بأن أوسلو كان خطأً استراتيجياً في حسابات عرفات التكتيكية. وفي الوقت نفسه، سيكون المرء سطحياً لو ادّعى أنه كان يمكن استنتاج هذا بوضوح في بدايات أوسلو. أحد الأسباب الهامة لذلك، هو أن ادعاءً من هذا النوع سيكون منقوصَ العنصر الأساس: التجربة. فأصلاً، جاء الإقدام على أوسلو ضمن ظرف تاريخي قاصم، بدأ فيه عهد وحيد القرن الأميركي. وهو ما نقل منظمة التحرير من نقيض الى نقيض من حيث الاعتماد على البعد الدولي للقضية الفلسطينية. فسقوط القطب الذي قاده الاتحاد السوفياتي فرز وضعاً كان يجب فيه إعادة ترتيب الأوراق. لكن السؤال يظلّ حول شكل ذلك الترتيب.
برأيي، لقد اعترته فوضى غير قليلة، ربما تنبع أساساً من النقلة السريعة، خلاله، من إطار حركة التحرر الوطني الى إطار السلطة الجزئية الممأسسة. هنا، تراجعت الى حد كبير إمكانات المقاومة الشعبية، لأنه جرى تحييدها لمصلحة مصالح السلطة. هذا ما قد يحدث حين تنتقل حركات التحرر الى العروش. لكن ما ميّز هذه الانتقالة الفلسطينية هو أن هذا العرش كان تحت «لا رحمة» الاحتلال الإسرائيلي. ربما أن ما غاب عن القراءة حينذاك، هو الفصل المتعلق بالأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية المعلنة، التي تتلخص في رفض أي حل عادل (نسبياً) للقضية الفلسطينية، ومحاولة استبداله بترتيبات جغرافية وإدارية تخفي مظاهر الاحتلال، لكنها لا تزيله فعلياً.
مع ذلك، فنحن بحاجة الى الانتقال من عام 1993 (توقيع أوسلو) حتى عام 2000، إذا أردنا أن يكون تقويمنا للفصول الأخيرة من مسيرة عرفات، تقويماً مفيداً لحاضر شعبنا ومستقبله، وليس حزمة من فشّات الغُلّ، سواء السياسية منها أو الأكاديمية. المراهقة مرحلة تطوّر هامة، لكنها هنا لا تفيد.
في عام 2000، سعت المؤسسة الإسرائيلية، بقيادة مجرم الحرب رئيس الحكومة آنذاك الجنرال إيهود باراك، الى فرض إملاءات واضحة على الشعب الفلسطيني. وتضمنت كسر قاعدة الانسحاب العسكري والاستيطاني حتى حدود الرابع من حزيران، وهو ما يعني إبقاء وجود استيطاني وعسكري في أراضي 1967، ورفض الاعتراف بكامل القدس الشرقية عاصمة لفلسطين السياديّة. والأهم، أن تلك المحاولة الإسرائيلية سعت الى إفراغ القضية الفلسطينية من مضمونها كقضية شعب، وتحويلها الى ترتيبات جغرافية وإدارية محدودة، وذلك من خلال تحييد ملف اللاجئين بكل ما يعنيه ذلك على المدى الراهن والبعيد. في هذا الظرف، وجد عرفات نفسه أمام امتحان قاس. فقد وصل هذه المرحلة برجليه، ولم يكن أمامه سوى إمكانيتين: إما أن ترتجف رجلاه أو أن تكونا هدّارتين. ولا يختلف اثنان (إلا اذا كان أحدهما خفيف البصيرة) في أن عرفات اختار الخيار الصعب، والصحيح. لقد رفض بوضوح وشجاعة جميع الإملاءات الإسرائيلية التي ترافقت بضغط أميركي سافر.
في أواخر أيلول/ سبتمبر 2000، نفذت إسرائيل قرارها الوحشي المبيّت. فبعد فشل محاولات ليّ الذراع بأدوات سياسية، أرسلت بجندها ودباباتها لاجتياح الضفة الغربية وقطاع غزة وإنهاء آخر آثار أوسلو السيادية ـــــ الشكلية، فلسطينياً. يجب القول إن ما نسميه اليوم انتفاضة ثانية، لم تتمّ المبادرة إليه فلسطينياً، فعلاً، بل كان ردة فعل (لم تتّسم بالتنظيم) على التوحّش الاحتلالي الإسرائيلي. وهذا خلافاً للانتفاضة الأولى التي

الفصل الأخير من حياة عرفات امتدّ بين أكبر أخطائه السياسية وأكبر مآثره البطولية
كانت فعل مقاومة شعبية منظّمة ومنسّقة، سواء على صعيد الأحزاب الفلسطينية ومنظمة التحرير، أو على مستوى التحرك المقاوم المحلي الذي أفسح مجالاً للشاب والمرأة والطفل والكهل للقيام بدورهم، ولم يقتصر ذلك على المقاومين بالبنادق.
كانت هذه هي المرحلة الثانية من الامتحان الذي وجد عرفات نفسه فيه. مرّت سنتان لم تتورّع فيهما المؤسستان السياسية والعسكرية عن اقتراف أبشع الاعتداءات على الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967، بحيث كان استخدام الدبابة والطائرات الأميركية المقاتلة ضد مواقع مدنية أمراً عادياً. وقمّة الوحشية تكتمل حين تتحوّل الى عاديّة.
في ربيع عام 2002 أطلق مجرم الحرب، رئيس الحكومة حينذاك آرييل شارون، اجتياح «السور الواقي» الذي نجحت اسرائيل خلاله برفع مكانتها الى ذروة جديدة على سلّم جرائم الحرب البشعة. وعلى امتداد السنوات التالية لم تتقدم الدبابات باتجاه مواقع المقاومة والاحتجاج في جنين ونابلس وطولكرم وسواها فقط، بل تقدمت باتجاه «المقاطعة» حيث كان عرفات، فدمّرت أجزاء من المبنى الذي حوصر وقطعت الكهرباء والماء عنه. هنا، توالت العروض العربية الرسمية الذليلة، بل المتآمرة مع إسرائيل، بإرسال مروحيّة تخرجه خارج الحدود، لكن عرفات أجابهم بمقولته المجلجلة: يريدونني أسيراً، قتيلاً أو طريداً، وأنا أقول لهم شهيداً، شهيداً...
كان بوسع عرفات التصرّف كما يتصرّف الزعماء التقليديون العرب، وغير العرب. لكنه اختار أن يسلك درب الثوّار حتى النهاية. هذا ما فعله في امتحان 2000 السياسي في كامب ديفيد، وهو ما فضّله بحزم خلال 4 سنوات، منذ إطلاق العدوان الإسرائيلي المفتوح بعد ذلك بشهور قليلة، الى أن قضى اغتيالاً، على الأرجح.
إن الفصل الأخير من حياة عرفات، امتدّ منذ وقع في أكبر أخطائه السياسية مطلع التسعينيات، حتى أكبر مآثره البطولية حين قضى صامداً مطلع سنوات الألفين. نقطتان تصلحان لأن تكونا إحداثيّتين لمعنى المأساة. ولكن، بين هذا وذاك، قضى هذا القائد نحبه مثلما قضى حياته: ثائراً وبطلاً وطنياً.
لكن التاريخ لا يكفّ عن اللعب بنا، فيكفي أن يجعلنا نرسل أنظارنا الى السلطتين المنقسمتين في رام الله وغزة، حتى نعرف معنى عبثيّة امتزاج قمة المهزلة بذروة المأساة. لكنه التاريخ نفسه الذي علمنا بالتجربة أنه جدليّ الحركة: عندما يتخلّص الشعب الفلسطيني من مهزلة زعامته الراهنة، سيواصل حثّ الخطى نحو فضاء حريّته. فالاحتلال مهما توحّش وطال سيظلّ استثناءً، نهايته آتية لا محالة. ولا بأس من التأكيد والتذكير: الفلسطينيون لا يقلّون عن إخوتهم الفيتناميين، وإسرائيل ليست أقوى من
أميركا!
* صحافي فلسطيني