Strong>ديما شريف«اعذريني أنا أثرثر كثيراً». عبارة يردّدها مراراً الفيلسوف الماركسي إتيان باليبار وهو يحدثك، خلال زيارته البيروتيّة الأخيرة، بمتعة كبيرة عن حياته الحافلة. من تلميذ لأحد أهم الفلاسفة الماركسيين في القرن العشرين، لوي ألتوسير، إلى أستاذ للأدب المقارن في فرنسا والولايات المتحدة، حياة مثيرة قضاها صاحب «حول دكتاتورية البروليتاريا» (1975).
كان باليبار دائماً شيوعياً، كما يقول، ولم يصبح ماركسياً سوى على يد ألتوسير. التقى هذا الأخير في عامه الجامعي الأول في «المدرسة العليا»، حيث كان يتخصص في الفلسفة. في العام نفسه، نشر ألتوسير مقالات تتناول الفلسفة الماركسية وماركس الشاب. خطرت لباليبار وصديقه بيار ماشيري فكرة عظيمة: لماذا لا يعرّفنا ألتوسير إلى ماركس هذا؟ توجها إلى أستاذهما وقالا له إنّهما قرآ مقالاته، وإنّهما يرغبان بالتعرف إلى ماركس والعمل على فلسفته.
كان العام الدراسي يشارف على الانتهاء، فاقترح ألتوسير عليهما قراءة ما يستطيعان عن ماركس وكتابة أطروحة صغيرة خلال العطلة الصيفية، وبعد العودة إلى الدراسة «سنرى ما يمكننا فعله». كتب باليبار وماشيري 150 صفحة وقدّماها في بداية العام التالي. «كان ألتوسير سعيداً جداً بما فعلناه. فهو بحاجة إلى حوار مع الآخرين كي يستطيع العمل»، يقول باليبار. وقتها، بدأ ألتوسير حلقةً دراسيةً عن ماركس استمرت أربع سنوات، ونتج منها كتاب «قراءة رأس المال» شارك في كتابته طلابه الذين أضحوا اليوم علماء أنثروبولوجيا وفلاسفة ومفكرين مشهورين. «كان العمل رائعاً، تناولنا ماركس من وجهة نظر بنيوية، وعملنا على التحليل النفسي أيضاً كما يحب ألتوسير»، يقول باليبار.
عندما يتحدث هذا الفيلسوف الفرنسي عن ألتوسير، أستاذه الذي تحوّل صديقاً، تلمع عيناه. «كانت علاقته بنا ندّية، مدفوعة برغبة في التجديد الفلسفي إلى جانب تجديد الماركسية الذي كان يحلم به»، يقول. ويضيف أنّ الأستاذ كان يدفع طلابه كي تكون لهم آراؤهم الخاصة.
ماذا عن مرض ألتوسير؟ «اكتشفنا هذا الشيء منذ البداية»، يؤكد صاحب «خمس دراسات في المادية التاريخية» (1974). لاحظ الطلاب تأثير الفترة التي قضاها أستاذهم في المعتقل، خلال الحرب العالمية الثانية، على سلامته النفسية، واكتشفوا أنه مصاب بالاكتئاب. «رحتُ أزوره في المستشفيات التي كان نزيلها بين فترة وأخرى». ويضيف باليبار أنّ العمل والتدريس كانا الملاذ من هواجسه كلّها ووسيلة للتنفيس. هل فاجأتهم نهايته؟ «بصراحة، كنّا نتوقع أن ينتحر، المفاجاة كانت أنّه قتل زوجته». ويقول باليبار إنّ أزمات الشيوعية الداخلية كانت هاجساً لدى ألتوسير، وخصوصاً أنّه كان يؤمن بأنّ الشيوعية جاءت لتنقذ العالم، وهذا ما ساهم بتعميق مرضه.
تاريخ باليبار الشيوعي الطويل لم يشفع له حين قرّر الأمين العام لـ«الحزب الشيوعي الفرنسي» جورج مارشيه طرده من الحزب قبل انتخاب فرنسوا ميتران رئيساً في 1981. كان في الحزب رسمياً منذ 1961، لكنه أصبح منذ منتصف السبعينيات ناقداً شرساً لسياساته من الداخل. كان «الحزب الشيوعي الفرنسي» في تحالف مع «الحزب الاشتراكي» (اتحاد اليسار) ويعمل من أجل إيصال ميتران إلى الرئاسة. «رضخ الحزب للتوجهات الشعبوية ونظم تظاهرة ضد وجود المهاجرين في فرنسا»، يخبرنا صاحب «سبينوزا والسياسة» (1985). كتب حينها مقالاً كبيراً نشر في مجلة «نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسيّة، اعتبر فيه أنّه لا يمكن السماح للحزب بأن يصبح عنصرياً. لم تتحمل القيادة ما حصل، وجاء قرار طرده بعد يومين من نشر المقال. «لقد حررني هذا الشيء»، يقول. يفخر بكونه شيوعياً بلا حزب منذ 28 عاماً، محيلاً إلى جملة من البيان الشيوعي: «الشيوعيون لا يؤلفون حزباً معيناً. حيثما وجدوا، يحاربون الملكية الخاصة وينشرون الأممية».
هو اليوم ملتزم بهذين الشرطين التزاماً كاملاً. يتذكر حادثة طريفة بعد سنتين من طرده. كان يحاول في 1983 الحصول على تأشيرة لزيارة الولايات المتحدة للمرة الأولى. في طلب الفيزا، وجد سؤالاً لفته: «هل كنت يوماً شيوعياً، هل أنت مثلي؟ أو أصبت بمرض ينتقل جنسياً؟» أجاب بنعم بطبيعة الحال. وخلال المقابلة، سألته الموظفة منذ متى هو شيوعي، فأجابها منذ 1961 حتى 1981. عندها سألته عن سبب تركه الحزب، فأخبرها أنّه طرد. لن ينسى أبداً تعليقها على ذلك. «هذا أسوأ بكثير»، قالت له.
ماذا عن وضع الحزب اليوم، واليسار عموماً؟ قبل الإجابة، يعود إلى عبارة كان غرامشي يرددها: «إرادة متفائلة، ذكاء متشائم». ثم يبدأ بتعداد أماكن فشل اليسار الفرنسي والعالمي، وأهمها فلسطين التي تعيش في كارثة. يعتبر أنّ الوضع في فرنسا سيئ جداً، وخصوصاً مع تشرذم اليسار. «يجب على اليسار أن يخرج من حالة العجز التي يعيشها» يكرّر. ويضيف أنّ اليمين أيضاً «وضيع» مع وجود ساركوزي الذي لا قناعات له. ما يثير حنقه هو اعتماد مكونات اليسار الفرنسي على خطابات الاستنكار فقط، رغم وجود إصلاحيين وراديكاليين فيه. ما الحل؟ «الحل ليس فرنسياً. يجب على اليسار الأوروبي كلّه استنهاض نفسه، وضم المهاجرين إليه من دون التخلي عن قضية صراع الطبقات». مع ذلك، لا يعيش الرفيق باليبار وهماً عن التغيير المنتظر.
كيف يكون الإنسان ماركسياً اليوم؟ «بألا يكون ماركسياً فقط»، يجيب ويعود إلى معلمه ألتوسير. كان هذا الأخير يؤمن بأنّ الماركسية لا تستطيع وحدها الإحاطة بكلّ الظواهر الاجتماعية والأيديولوجية. لذلك، يجب دمجها مع التحليل النفسي وغيره. يضيف باليبار أنّه لا ظاهرة منفصلة عن صراع الطبقات لكن لا يمكن تفسير كلّ شيء عبر هذا الصراع. ويذكر قضايا النسوية وغيرها من المسائل التي لم يتطرق إليها ماركس ولا يمكن حلّها عبره فقط. يعود مجدداً إلى ألتويسر مع اعتذار جديد عن ثرثرته. «أدين له بكلّ شيء»، يقول، «هو جزء أساسي من تكوين وعيي الفلسفي ولم أكن لأصبح ماركسياً لولاه».


5 تواريخ

1942
الولادة في أفالون في Bourgogne (فرنسا)

1961
بدء الدراسة في «المدرسة العليا» تحت إشراف لوي ألتوسير. وبعدها بأربع سنوات، أنجز «قراءة رأس المال» مع أستاذه وزملائه

1981
طرد من «الحزب الشيوعي الفرنسي» بسبب انتقاده انزلاق الحزب إلى العنصريّة

2005
صدور كتابه «أوروبا، الدستور، الحدود»

2009
زار لبنان قبل أيام للمشاركة في ندوة عن إدوارد سعيد بمبادرة من «برنامج أنيس مقدسي للآداب» في «الجامعة الأميركية في بيروت»