في افتتاحية مقال لشبكة «سي بي أس» الأميركية بتاريخ 16/11/2009، كتب المحرر: قمة الغذاء تقدم وعوداً هزيلة للجياع. افتتاحية تكرّرت خلاصتها في جميع وسائل الإعلام خلال اليومين الماضيين، رغم أنها لا تُعدّ سابقة
علي درويش
إذا عدنا بالذاكرة إلى عام 1992، لوجدنا أن الدول الغنية الكبرى كانت قد وعدت بتقديم 0,7% من ناتجها القومي للتنمية. وفي قمة الغذاء عام 1996، جعلت هذه الدول من خفض عدد الجياع في العالم للنصف بحلول عام 2015 هدفاً أول من أهداف الألفية. ولما تعذّر الوفاء بالوعد، عزته قمة التنمية المستدامة في عام 2002 إلى «انعدام الإرادة السياسية».
اليوم، يعترف كل الخبراء بأن الهدف الوحيد من أهداف الألفية الذي ذهب في الاتجاه المعاكس هو الهدف الأول؛ إذ ارتفع عدد الجياع في العالم من 850 مليون إنسان تقريباً إلى أكثر من مليار إنسان. وفي هذا السياق، يجدر بالذكر أن البقرة الواحدة في الاتحاد الأوروبي تتلقى أكثر من 3 دولارات من الدعم يومياً. في العام المنصرم، قدّرت منظمة الزراعة والأغذية (FAO) أن العالم بحاجة إلى أكثر من 20 مليار دولار سنوياً لمحاربة الجوع. واليوم تتحدث المنظمة عن 44 مليار دولار سنوياً. طبعاً هذه المبالغ لم تتأمن، والأرجح أنها لن تتأمن لأسباب ليست خافية على أحد. فمنذ حوالى سنة، عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية في الدول الغنية، تداعت الحكومات والمجالس في هذه الدول لتأمين أكثر من 3 تريليونات دولار (3000 مليار دولار) لإنقاذ المصارف والشركات الكبرى المتعثرة. هذه المصارف والشركات هي ذاتها التي عملت على مدى سنوات على تدمير قدرات الدول وقطاعاتها العامة ورفع اليد الرقابية لمؤسساتها وفق مبدأ الخصخصة وتحرير السوق. تأمنت الأموال التي يمكنها أن تحل كل مشاكل العالم من جوع وتغيّر مناخ وتصحّر وغيره بلمح البصر، فالأولويات واضحة: السيطرة على الموارد الطبيعية والسلسلة الغذائية بأكملها من جانب الشركات المتعددة الجنسية.
منذ بضعة أشهر، جتمع القادة الثمانية الكبار (G8) في إيطاليا وقدّموا وعوداً بـ20 مليار دولار للمساعدة في القضاء على الجوع. المال لم يأت والأرجح أنه لن يأتي. فالمطلوب هو إدارة الأزمة لا حلّها، لأنه إن غابت الأطلال، فعلى ماذا سيكون البكاء والتسول؟
في هذا الاجتماع أيضاً أكّد الحاضرون «دعم الإصلاحات الجارية على نظام البحث الزراعي العالمي من خلال المنتدى العالمي للأبحاث الزراعية». قدّم هذا المنتدى، خلال اجتماع عُقد الأسبوع الفائت للجنته التسييرية، مسودة ورقة عن مستقبل الأبحاث الزراعية جاء فيها أن «هناك شروطاً أساسية دنيا للنموّ». هذه الشروط تتعلق بتوافر الإرادة السياسية والاستقرار، إطار قانوني شفّاف ومتناغم، بيئة اقتصادية مُسهَّلة، سياسات اقتصادية واجتماعية مُيسَّرة مثل سياسات الدعم، استراتيجيات استثمارية، وبنى التحتية، إلى آخره. من ناحية أخرى، يؤكد المعهد الدولي للتنمية المستدامة في دراسة قدّمها في شهر آب 2009 أن الدعم المقدّم للزراعة (مليار دولار يومياً) والطاقة والنقل والماء في الدول المتقدّمة يساوي 15 ضعفاً مما يحتاجه تطبيق كل أهداف الألفية مجتمعةً، وهذا الدعم هو أكثر بثماني مرّات مما هو مطلوب لتطبيق الأجندة 21 التي اعتُمدت في قمة الأرض عام 1992، وهي أكثر الخطط العالمية طموحاً لتحقيق التنمية المستدامة؛ ولوقف التغّير المناخي العالمي.
أمّا الاتحاد العالمي لحركات الزراعة العضوية العضوية IFOAM، فيُشير في بيان نُشر قبل يومين، إلى «أن هناك أكثر من 400 مليون حيازة زراعية «فقيرة» (مساحة الواحدة أقّل من هكتارين) يمكنها في حال استثمارها في الزراعة العضوية أن تكون المفتاح لحل مشكلة الأمن الغذائي في الدول النامية».
وإذا ما قفزنا إلى جانب آخر وهو الإنفاق العسكري على الحروب الوقائية، فقد كلّفت حتى الآن ما كان بإمكانه حل مشكلة الجوع عشرات المرّات. هكذا، ومما تقدّم، يمكننا أن نستنتج أن حل مشكلة الجوع والفقر لا إدارتهما ممكن وأن موارده البشرية والمادية موجودة بوفرة إذا ما توافرت الإرادة الجدية والنية الصادقة لدى أصحاب القرار سواء كانوا زعماء سياسيين أو مسؤولين في الأمم المتحدة.
أمّا في لبنان، فلا بدّ من التساؤل عما أنجزته الهبة الأوروبية لوزارة الاقتصاد التي يفترض أن تكون قد جهّزت العديد من المختبرات المُخصّصة للتأكد من نوعية الغذاء ضمن مشروع QUALEB.
وإنه لا بد للوزارة نفسها أن تفكّر في اللجوء إلى إيقاف أي شكل من أشكال المفاوضات الخاصة بمنظمة التجارة العالمية WTO حتى إنجاز وتوفير البيئة الملائمة والشروط الدنيا لتحقيق التنمية،
حتى لا نقضي على ما بقي من أشكال الزراعة وينتقل من بقي من المزارعين إلى أحزمة البؤس أو إلى المهجر