عزيزة حميةعشر دقائق فقط تفصل بين عالمين في منطقة فرن الشباك. فخلف ضجيج السيارات وعجقة الناس ومنظر البنايات العالية وكثرة المحال التجارية على قارعتي الطريق الرئيسي، يكمن عالم آخر، يكفي أن تتمشى لعشر دقائق حتى تصله. ليس هناك شيء مشترك بين المكانين سوى أنهما يتبعان رسمياً وإدارياً لمنطقة فرن الشباك.
عبر طريق عشوائي بين الأعشاب والنباتات البريّة رسمته أرجل العمال الذين يحاولون اختصار طريقهم للوصول إلى مكان عملهم على الموعد المحدّد، واستفاد منه المستهلكون الذين يقصدون حقلاً صغيراً خلفياً للاستمتاع بشراء الخضار الصحية والطازجة التي لا تدخل في إنتاجها أي مواد مصنّعة أو سامة، مباشرة من الحقل، إلى ثلاجاتهم، من دون وسطاء، تصل إلى واحة خضراء في قلب المدينة المزدحم.
والمسؤول عن هذه الحديقة امرأة تدعى رحمة تبلغ من العمر ستين عاماً، بينما يبلغ زوجها الذي فقد حاسة السمع الخامسة والسبعين من عمره. يعملان معاً في هذا الحقل منذ أكثر من عشرين عاماً بعدما تهجروا من قريتهم في الشوف، وكانت «حالتنا ع قدنا»، كما تقول رحمة.
في حديقة رحمة، وبالرغم من ضيق المساحة، الكثير من الخضار فصلت المزارعة في ما بينها بممرات من الباطون: فهناك البامية، السبانخ ، البقلة، البندورة، الخيار، البصل، الملفوف...
ورحمة، التي كانت والدتها هي من اختارت لها اسمها، معروفة بقلبها الرحوم لدى جيرانها وزبائنها و... العصافير التي تحوم فوق حقلها. فقد دأبت السيدة منذ سنوات على توفير مياه الشرب لتلك العصافير، إذ وزّعت في أنحاء حقلها قصعات من المياه حتى تجد العصافير ما تشربه وتظلّ تتردّد على الحقل تشدو فوقه باكراً كل صباح، لتؤنس رحمة التي تقصد الحقل بصحبة زوجها وتظلّ فيه تؤمّن طلبات الزبائن حتى منتصف النهار، حين تعود إلى منزلها الذي لا يبعد كثيراً عن الحقل، بينما يظل زوجها هناك حتى العشاء يهتم بالنكش والسقي. أمّا الأسمدة التي تستخدمها رحمة للخضار، فهي عبارة عن زبل البقر فقط. تجلبه من عند جارها الذي يربّي في مزرعته المحاذية للحقل أربع بقرات، بينما تؤمن حاجة الحقل من المياه بئر ارتوازية خاصة به مياهها صالحة للشرب.
حقل رحمة ليس في البقاع أو الجنوب أو الجبل بل هو في قلب المدينة، في سوق فرن الشباك المكتظ بالناس. وفي هذا السياق، هو بمثابة حديقة رائعة لفرن الشباك يفوق جمالها جمال الحديقة العامة الخاصة بالمنطقة ذاتها. حديقة قد تُحرم منها المنطقة قريباً كما قد تُحرم من مدخولها رحمة وزوجها المطالبان اليوم، بعدما توفّي صاحب الأرض، بمغادرتها بناءً على طلب الورثة. فإلى أين قد ترحل رحمة وزوجها بسنواتهما السبعين؟