حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

«مساء الخير. ما زالت الحركة السياسية في لبنان في حالة مرتبكة نتيجة عدم التوافق على المواضيع الخلافية بين الأقطاب الرئيسيّين. في هذا الوقت، جال الممثل الخاص للأمين العام لكواكب المجموعة الشمسية يرافقه وفد مؤلف من وزيري خارجية عطارد وزحل على الرؤساء الأربعة (بعد إنشاء مجلس الشيوخ سنة 2025) والمرجعيات الروحية والسياسية في جهد مشترك لتقريب وجهات النظر لما فيه «المصلحة اللبنانية»...
دولياً، «استقبل الرئيس الفرنسي وفداً من عائلة روكان لشكره على مشاركته في مراسم دفن عميد العائلة. ثم استقبل بعدها وفداً من مزارعي العنب للاطّلاع منهم على أزمة التصدير إلى الصين. ثم استقبل النائب السابق جان بيار في زيارة عائلية».
طبعاً الخبران غير صحيحين. فالأول لن يصحّ حتى يصل اللبناني إلى كواكب المجموعة الشمسية، وبعدها يصبح الخبر واقعاً. أما الخبر الثاني، فلن يصح لأن الإعلام المرئي والمكتوب الغربي خرج من هذا التخلف منذ سنوات، وتبعهما إعلام أوروبا الشرقية إلى روسيا والصين، لسبب بسيط هو أن أكثر الإعلام في تلك الدول أصبح خارج السلطة، ويعمل على أسس تجارية يحكمه فيها الربح والخسارة. والأكيد أن هناك تناقضاً بين الربح التجاري والأخبار السخيفة، فضلاً عن أن الشعوب هناك لا تهضم تغطية كهذه. في العالم العربي تعكس شاشات التلفزيون في سطحية نشراتها الإخبارية صورة الأنظمة الديناصورية فيها. نعم، ما زال الإعلام المرئي «يُطرب المواطنين يومياً باستقبالات ووداعات» الملك والأمير والرئيس والقائد والزعيم، فضلاً عن نشاطات النائب الأول والثاني والعاشر (في بعض الدول لا نواب رؤساء أو زعماء لعدم توافر الكفاءة...). يومياً يؤنَّب المواطن على شكّه في أن «الرئيس الأب» يسهر ليلاً لتوفير رخائه. الأمن محسوم.
استقبال ووداع وافتتاح وزيارة منطقة. ذهنية متحجّرة ما زال الإعلام المرئي، الأكثر انتشاراً، والإنترنت مع المواطن، يمارسها منذ خمسين عاماً.
يجلس المواطنون يومياً رهائن أمام شاشاتهم خلال النشرة الإخبارية، لأن أكثر من نصفها مخصّص لسماع وحي، ومشاهدة قامات الزعماء والقادة قبل أن يحصلوا على بركة متابعة بقية النشرة عن بعض أحداث العالم (ضمن غير المحظور طبعاً). ألقابهم يجب أن تُردّد بـ«الكامل» عند ذكر أسمائهم، وإن تكرّر ذلك مرات عدة في دقيقة واحدة. يجب عدم تفويت تسلّمهم برقيات من رؤساء آخرين عند تحليقهم في سماء الوطن، والردّ عليها بالتمني بطول العمر.
في لبنان وضع الإعلام المرئي أسوأ بأضعاف. فالمواطن المقهور عليه أن يستمع إلى استقبالات ونشاطات ثلاثة رؤساء لا واحد. بعدها يجب أن يُنصت إلى نشاطات الزعيم الروحي من بطرك ومطران ومُفتٍ ممتاز وغير ممتاز، ثم إلى متابعة جولات سفراء البلاطات وتصريحاتهم على أبواب الرؤساء. يسهم الإعلام المرئي من حيث لا يدري في إفساد السلوك البروتوكولي للسفراء، وتحوّله إلى محور، تماماً كما يفعل السياسيون.
هل هناك مَن يسأل لماذا يتراجع أفق المواطن العربي واللبناني المقيم وفكرهما؟ كيف لا وإعلامه منهمك يومياً بشؤون سلاطين القوم، وبعض الأمور التجميلية الداخلية وقشور من الأحداث العالمية. أصبحت القضايا المركزية العربية هامشية إلّا إذا أُلقي القبض على زعيم في مخبأ (بعد قرار الدنيا أنه يهدّد الأمن العالمي) أو حصلت حرب ما كغزة أو لبنان.
لماذا الإعلام المرئي بهذا السوء مع كل التطوّرات العالمية؟ ولماذا الإعلام المكتوب أسوأ بأضعاف؟ جواب المدافعين سيستعمل الشق المادي تعليلاً على الفور. ولكن الواضح أن الإعلام في أي بلد ما هو إلّا صورة عن نظامه وحضارة مجتمعه في التخلف والحداثة. بات معروفاً ضيق السوق الإعلانية في العالم العربي نسبة إلى الناتج القومي، وأن السعودية تستحوذ على حوالى 70% منها (في لبنان مجمل حجم الإعلان لكل وسائل الإعلام لا يتعدى 100 مليون دولار تتسلّط عليه نزعات مذهبية). ولكن ما يثير العجب هو أن القطاع الإعلامي المرئي الخاص المتمكّن مالياً يصبح هو الأداة المكمّلة لجبروت السلطة في ترويج الإعلام الرسمي. وإلّا فهل مصادفة أن الإعلام السياسي في أغلب الدول العربية هو من احتكار السلطة (ما عدا لبنان)، وأن أكثر الإعلام المرئي الخاص ترفيهي. وحدها قناة الجزيرة كسرت هذا النمط، فأنتجت برامج تحقيقية وثقافية وإطلاعية وتاريخية... لتصبح أهم إنتاج لقطر بعد النفط والغاز.
أما في لبنان، فأكثر الإعلام المرئي الخاص يملكه مزيج من «رأسماليّي السلطة» و«رأسماليّي المذاهب». يشترك، لسبب مجهول، يومياً في تغطية الرؤساء الثلاثة والسفراء، ويتمايز في سرد نشاطات المرجعيات الروحية والسياسيين، حسب وجهة شبكة التلفزيون المرتبطة بتمويل القطب السياسي المُنعِم عليها. غوغائية الصدامات الإعلامية في لبنان تتناقض مع أحادية المديح في الإعلام العربي. لم تغب الحيادية وحدها في الإعلام (هي أصلاً تتناقض مع «سياسية» الصحافة) بل غابت معها الموضوعية. محطات عديدة يجمعها فشل الجدوى المالية، ويدفعها إلى الخضوع أمام نفوذ المال السياسي الداخلي والخارجي بامتياز، دافعاً بها في متاهات المذهبية العمياء (إلا إذا أُنزل الوحي وتحدث الجميع عن «الوحدة الوطنية»). أليس مفارقةً أن معظم المحطات العربية، وخاصةً اللبنانية، تلتقي على غياب البرامج العميقة التي تُعنى بحياة المواطن، بدءاً بالثقافة والتحقيقات، وصولاً إلى الملفات الحياتية اليومية، من دواء وصحة وصناعة وزراعة وبطالة ومخدّرات وسرقة وفساد وقضاء وتعاونيات وسكن وتفاوت اجتماعي... محطات يحكمها هوس سياسي ونرجسية، إلا إذا رأينا أنّ الدراما المكسيكية والتركية، وسلسلة البرامج الفكاهية ولبنانية الإغاظة الجسدية، هي منبع الحضارة العربية الحديثة؟ ابحث عن الديموقراطية...