غالب أبو مصلح*الماضي.
ولما وصلت الحريرية إلى السلطة عند أواخر سنة 1992، عملت على تبني مبادئ الليبرالية الجديدة. وكانت هذه الليبرالية أقرب ما تكون لفلسفة هذا النظام المركنتيلي ومصالح أهله، وعملت حكومة الحريري لاستعادة دور لبنان السابق كسوق مالية، وكمركز للشركات المتعددة الجنسية، وعقدة للمواصلات وسوق تجارية ومركز للتسلية، وذلك في مناخ وضع حد للصراع العربي الصهيوني، والاعتراف بالكيان الإسرائيلي.
كان المناخ الدولي مؤاتياً لزرع هذه الأوهام السياسية، فقد انهار الاتحاد السوفياتي وانتصرت مبادئ الليبرالية الجديدة واتسعت الهيمنة الأميركية على العالم. ووُضعت نهاية للجدلية التاريخية حسب زعم فوكوياما، كما أُسقطت التناقضات بين الفقراء والأغنياء بين دول الشمال ودول الجنوب وبين الإمبريالية الجديدة ودول العالم الثالث، وانزاح الصراع إلى تخوم الحضارات البشرية الكبرى ومنها الحضارة الإسلامية حسب مزاعم هنتنغتون. وبالتالي فإن الإدارة الأميركية أصبحت قدر الضعفاء في هذا العالم، وانفلتت الإمبريالية الجديدة من عقالها. والإمبريالية الجديدة هي التعبير السياسي الاقتصادي الثقافي العسكري عن النظام الرأسمالي العالمي في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة.
ولكن هذه الهيمنة اصطدمت بإرادة المقاومين في لبنان وفلسطين وأفغانستان والعراق ثم انفجرت أزمة النظام الرأسمالي العالمي. وها هي الليبرالية الجديدة تتراجع ومعها مشروع الهيمنة الأميركية على العالم.
أما في لبنان فإن هذه التجربة الحريرية الاقتصادية الاجتماعية باءت بالفشل على كل المستويات. فقد وعدت خطة إنقاذ لبنان الاقتصادية، خطة «آفاق 2000» التي وضعتها شركة بكتل الأميركية مع دار الهندسة بإشراف «إجماع واشنطن»، بتحقيق نمو حقيقي بمعدل 8% سنوياً وحتى سنة 2000، ولكن معدل النمو الفعلي لم يتجاوز 2% سنوياً. وانفلت الإنفاق العام غير المجدي من عقاله دون رقابة فعلية سابقة أو لاحقة من مجلس النواب. كما عُطّلت مؤسسات الرقابة والمحاسبة بحجة رفع كفاءة الإدارة. وفتح كل ذلك المجال أمام تفشي الفساد والزبائنية السياسية في الإدارات العامة.

1ــ السياسة المالية:

خُفضت معدلات الضرائب المباشرة التي يقع عبؤها على الأثرياء ورؤوس الأموال ورفع الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على كاهل الطبقات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود، مما جعل لبنان جنة ضريبية للأغنياء ورؤوس الأموال، وجحيماً ضريبياً للطبقات الشعبية. أعادت هذه السياسة توزيع الثروات والمداخيل بين الأغنياء والفقراء، بين الرواتب والأجور من ناحية، وبين رؤوس الأموال من ناحية أخرى لمصلحة رؤوس الأموال.
وخُفضت الموانع الجمركية على سلع الاستهلاك المستوردة إلى ما دون نسبة معدلات الدعم في دول المنشأ، ما رفع معدلات إغراق السوق المحلية ومثّل مزاحمة غير عادلة لقطاعات الإنتاج اللبنانية.
أما وقع Impact السياسة المالية على إعادة توزيع الناتج المحلي فأصبح سلبياً جداً. وبدل أن تضيّق هذه السياسة الفروقات في المداخيل عملت على توسيعها. يكفي أن أكثر من 80% من الضخ الضريبي يأتي من الضرائب غير المباشرة في لبنان، مقابل 20% إلى 30% في معظم دول العالم، ومع انكماش معدلات الإنفاق الاجتماعي وارتفاع كلفة الدين العام التي بلغت أكثر من أربعة مليارات دولار في السنة، فقد مثّل الدين العام مضخة هائلة للثروات، من جيوب الفئات المستضعفة اقتصادياً إلى جيوب الأثرياء والمصارف التي تمتلك سندات الدين العام.

2ـــ السياسة النقدية:

رفعت السياسة النقدية الفوائد الحقيقية على سندات الخزينة إلى معدلات خيالية ومعادية للتوظيف المنتج. فقد وصلت هذه الفوائد إلى أكثر من 20% لسنوات عدة، في الوقت الذي مثّلت فيه عائدات التوظيف على الصعيد العالمي حوالى 6% فقط. والفوائد الحقيقية المطلوبة في مراحل إعادة البناء والنهوض الاقتصادي تحوم حول الصفر. ورفع هذه الفوائد إلى حدود 4% يمثّل كابحاً للاقتصاد، فكيف إذا رُفعت إلى حوالى 18% أو أكثر؟
هذه السياسة النقدية وجهت التوظيفات إلى سندات الخزينة بدلاً من قطاعات الإنتاج، فضمرت هذه القطاعات، إذا كان معدل الاستهلاك Depreciation أعلى من معدل التوظيفات الجديدة. كان الرابح الأكبر من هذه السياسة المصارف التجارية التي تمكنت من رفع رؤوس أموالها بنسبة 1000% خلال 10 سنوات. 
بجانب ذلك عمدت السياسة النقدية في التسعينيات إلى رفع سعر الصرف الحقيقي لليرة إلى معدلات خطيرة جداً وغير مقبولة على الصعيد الاقتصادي. وسعر الصرف الحقيقي يقيس القدرة الشرائية للأموال، كما القدرة التنافسية لقطاعات الإنتاج المحلي وهو سعر الصرف بالنسبة لسلة من العملات مثقلة حسب نسب الاستيراد بالعملات الأجنبية، مضافة إليها الفروقات في معدلات التضخم.
وتعمد السياسات النقدية في دول العالم إلى خفض سعر الصرف الحقيقي لعملتها إذا كانت تعاني عجوزات في الحساب التجاري وحساب المدفوعات الجاري. ولكن بالرغم من العجوزات الكبيرة في لبنان على هذا الصعيد، عملت السياسة النقدية على رفع سعر الصرف الحقيقي خلال ثماني سنوات بنسبة 100%، ما خفض القدرة التنافسية لقطاعات الإنتاج، وخفض معدلات تغطية الواردات بالصادرات، ودفع بالعديد من المؤسسات إلى الإفلاس أو الرحيل عن السوق اللبنانية.

3ـــ السياسات الاجتماعية:

عمدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، منذ مجيء الرئيس الحريري إلى السلطة، إلى سياسات تخصيص غير مسؤولة، وإلى تنمية وتوسيع البنية الاحتكارية للنظام في قطاعات التجارة والبناء والصحة والنقل والنفط والمواد الغذائية، كما في قطاع المال والإعلام والاتصالات. ويقدر بعض الدارسين أن هذه البنية الاحتكارية رفعت معدل الأسعار بحوالى 30%.
وعملت هذه الحكومات على «تحرير سوق العمل»، أي على تحويل العمل الدائم إلى مؤقت أو مياوم، وحرمان العاملين من الضمانات الاجتماعية، وخفض معدل الأجور والرواتب لمصلحة زيادة معدلات الأرباح. لذلك جرى تفتيت النقابات العمالية ليقف العامل عارياً أمام استبداد رؤوس الأموال. وعملت السلطة على خفض موظفي القطاع العام وخفض الأجور الحقيقية في هذا القطاع لإبعاد الكفاءات عنه وإشاعة الفساد فيه، تبريراً لسياسات التخصيص حتى في الإدارات العامة.
أدت مجمل هذه السياسة المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية إلى نمو الفروقات الطبقية وتساقط معظم أبناء الطبقة الوسطى إلى ما دون خط الفقر الأعلى، وزيادة معدلات البطالة والهجرة. وإذا كان الناتج المحلي القائم قد بلغ فعلاً 28 مليار دولار كما يدعون، وكان عدد سكان لبنان 3.75 ملايين نسمة يكون خط الفقر بحسب المقياس الأوروبي 1867 دولاراً للعائلة المؤلفة من خمسة أفراد في الشهر. وإذا احتسبنا خط الفقر المدقع عند منتصف خط الفقر الأعلى أي 933 دولاراً في الشهر، فما نسبة العائلات اللبنانية التي ترزخ تحت خط الفقر المدقع؟ هذه الإحصاءات محرمة في لبنان ولا يعرفها إلا الله.
هذه السياسات الاقتصادية الاجتماعية ليست صدفة، وليست ناتجة من خطأ أو انعدام المعرفة لدى أصحاب النظام. إنها سياسات واعية تخدم المصالح الحقيقية للطبقة الحاكمة ولو على المدى القصير. وهذه الطبقة تستميت في الدفاع عن مصالحها المادية بشتى الوسائل الإعلامية والسياسية كما بالعنف المسلح. ولنتذكر دماء العمال والفقراء المهدورة في مناسبات عديدة، من إضراب عمال مصانع غندور إلى جسر المطار إلى كنيسة مار مخايل.
إن الوصول إلى استراتيجية اقتصادية اجتماعية جديدة، يحتاج إلى بحث الأسس الأخلاقية للنظام المطلوب، وإلى بناء أداة سياسية للتغيير، تعبر عن المصالح الحقيقية للأكثرية الساحقة من الجماهير.
بني النظام اللبناني على مبادئ ليبرالية القرن التاسع عشر التي ترفض تدخل الدولة في الاقتصاد، وتترك الحرية للتجارة وآليات السوق، «دعه يعمل، دعه يمر».
يدعو هذا الفكر إلى فتح السوق اللبنانية أمام تدفق البضائع من الخارج دون حماية لقطاعات الإنتاج المحلية، ولا يهتم هذا الفكر بحقوق القوى العاملة، فالحد من الفقر والبطالة بالضمانات الاجتماعية وبالتنمية البشرية يؤمَّن بفعالية «اليد الخفية» التي تكلم عنها آدم سميث، والتي تؤمن الصالح والخير العام عبر سعي الأفراد لتحقيق مصالحهم الذاتية. وأثبتت الأيام أن هذه اليد غير موجودة.
وبالرغم من أن النظام الرأسمالي العالمي تجاوز هذا الفكر الليبرالي في السابق، وأسس بعد الحرب العالمية الثانية الدولة الحاضنة، فإن النظام اللبناني بقي ليبرالياً بامتياز حتى وصول الرئيس فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة.
عمل شهاب على عقلنة النظام وتحديثه، ولكنه جوبه بمعارضة شرسة من الطبقة الحاكمة أجبرته على الانكفاء والانعزال، وأُسقطت تجربته الحديثة، وشُل معظم المؤسسات التي بناها، مثل مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة، والتفتيش المركزي والإحصاء المركزي، كما أُلغيت وزارة التصميم وأُعيد النظام إلى أصوله الليبرالية الصافية.

مثّل الدين العام مضخة هائلة للثروات من جيوب الفئات المستضعفة اقتصادياً إلى جيوب الأثرياء والمصارف
تبنّى أهل النظام مبادئ الليبرالية الجديدة بعد مؤتمر الطائف، وهي أكثر وحشية من الليبرالية الأصلية. تعتقد الليبرالية الجديدة بأخلاقيات السوق الحرة، أي بالدارونية الاقتصادية الاجتماعية، وبعدم تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي الاجتماعي ومعدلات الرواتب والأجور، وأسقطت شرعة حقوق الإنسان، وخاصة الجيل الثاني من هذه الشرعة.
تعتقد هذه الليبرالية، وخاصة في نسختها الأنغلو ــــ أميركية، أن الفقر مسؤولية الفقراء. والفقراء هم الكسالى غير المنتجين الذين لا نفع منهم، وهم مشبوهون ومدانون عموماً ولا يستحقون حماية المجتمع، كما تعتقد أن السوق تعطي كل ذي حق حقه، وإذا اتسع نطاق البطالة يصحح السوق هذا الخلل عبر خفض الرواتب والأجور. وأخلاقيات السوق هذه تتعارض مع مبادئ العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي كما تدعو لها الأديان والمبادئ الاشتراكية، ومع أفكار تدخل الدولة لحماية القوى العاملة من دكتاتورية واستبداد رؤوس الأموال المالكة لوسائل الإنتاج، كما تتعارض مع مبادئ التخطيط الاقتصادي الاجتماعي للتنمية الشاملة المطلوبة في دول العالم الثالث خاصة.
وأثبتت أزمة النظام الرأسمالي الراهنة بطلان ادعاءات الليبرالية الجديدة عن كفاءة الأسواق وعقلانيتها وقدرتها على تفادي الأزمات الاقتصادية الدورية وتحقيق التنمية. بل إنها حققت في بعض دول العالم الثالث خاصة نمواً مشوّهاً أدى إلى تخلّف التنمية البشرية، كما هي الحال في مصر والأردن ولبنان.
وأخيراً، إن الطبقة الحاكمة في لبنان عملت على تغييب مناقشة القضايا الأساسية، والأسس الأخلاقية للنظام، ومناقشة السياسات الكلية، المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية التي تظهر حقيقة النظام واستهدافاته الحقيقية بعيداً عن ادعاءاته وأدبياته. يُغيّب نقاش الأمور الأساسية والجوهرية لجر النقاش إلى زواريب السياسات المالية مثل مؤتمر باريس، وعجز الموازنة وطرق سد العجز، وتفاقم الدين العام واحتوائه، وخسائر كهرباء لبنان وعجز موازنات الضمان الاجتماعي وما إلى ذلك من قضايا تفصيلية جزئية ولو هامة. أما الاستراتيجية البديلة المطلوبة فتفرض وضع مصالح الإنسان الحقيقية هدفاً أساسياً للسياسات الكلية، بدل استهداف زيادة الأرباح وتراكم رؤوس الأموال. وتتطلب اتّباع سياسات مناقضة للسياسات الكلية المتبعة على الصعد المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية، فهل تستطيع الطبقة الحاكمة في لبنان خيانة مصالحها لإحداث التغيير المطلوب؟ أم أن إسقاط هذه الطبقة هو المدخل الحقيقي للتغيير؟
* محاضرة ألقيت في بعقلين بتاريخ 15/11/2009