ياسين تملالي* سيذكر التاريخ ساخراً أن منشأ الأزمة الدبلوماسية الحالية بين مصر والجزائر كان حوادث متفرقة بدأت بعد فوز فريق كرة القدم الجزائري على غريمه المصري بالبليدة، في 7 حزيران/ يونيو 2009. ومن هذه الحوادث تهكم متطرفي المشجعين الجزائريين على المصريين بطريقة سمجة (تشبيههم بالنساء وكأن الأنوثة عيب وعار) وتذكيرهم بهزيمة 1967 (ناسين انتصار 1973)، ومنها كذلك سخرية متطرفي المشجعين المصريين من «لاعروبة الجزائريين» (وكأن العروبة في حد ذاتها شرف لا يناله إلا المطهرون) وتذكيرهم بأن «فرنسا كانت تعاملهم كالعبيد» وهل كانت بريطانيا تعامل المصريين كالأسياد؟).
وأثبتت معظم وسائل إعلام البلدين مهنيّتها بتحويل صحافيّيها إلى مشجعين. نقلت هذه البذاءات نقلاً وافياً وساعدتها في ذلك مواقع إلكترونية لا علاقة لها بالصحافة، فأصّلت لدى مهووسي كرة القدم في مصر والجزائر الرغبة في الانتقام. خُيّل لكثير من المصريين أن الجزائريين رضعوا كرههم منذ الصغر («ما بيحبوناش»)، فتحسر النجم الساطع، الإعلامي عمرو أديب على ذلك، زاعماً أن المصريين حرروا الجزائر من الاستعمار. فوجئ الجزائريون بهذا الكلام، لكن جل جرائدهم بدل أن تذكِّر بتاريخ هذا الصحافي المليء بالمآخذ المهنية، أو تشرح للرأي العام المصري أن حرب التحرير (التي دعمها عبد الناصر مشكوراً) لم تكن سوى آخر حلقات مقاومة بدأت في 1830، بدل هذا إذاً، تصرفت وكأن 80 مليون مصري كلهم ذلك المتغطرس الجاهل بالتاريخ، عمرو أديب.
واكتشف الإعلام في البلدين، وهو يرى مبيعاته تقفز بصورة جنونية، أن الذود عن الوطن، عدا أنه واجب ديني، يتيح ربح الكثير من المال. بدأ الحديث عن «مقابلة العودة» في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر وكأنها اليرموك بل الفتح المبين. شحنت الجماهير استعداداً «للمعركة الفاصلة» ولم تمتنع عن المساهمة في خلق التوتر سوى بعض الجرائد، منها في مصر «المصري اليوم»، الذي أطلقت حملة سماها «وردة لكل جزائري»، ثم ما لبثت أن عضت على أصابع الندم.
ولم يبق الشحن الإعلامي دون نتيجة. توافد المشجعون الجزائريون على مصر وكأنها مكّتهم الجديدة، فيما كان المشجعون المصريون يدعون عليهم بالويل على الإنترنت. ورفع الجميع إلى الله أدعية غريبة لم تسمع من قبل. المصريون طلبوا منه «أن يرزقهم على الأقل بهدفين» والجزائريون بـ«ألا يرزق المصريين بأكثر من هدف واحد». ولتأثر بعض المصريين بالشتائم الإلكترونية لبعض الجزائريين، رشقوا حافلة الفريق الجزائري بالحجارة، ما سبّب جرح ثلاثة لاعبين. وبدل أن يعترف الإعلام المصري بوقوع هذا الفعل، زعم أن «الحافلة كسرت من الداخل بشهادة سائقها». تناسى أن تعليمات الأمن في وسائل النقل تلزم بتهشيم كل زجاجها إذا تهشم بعضه، ولم يخبرنا إذا كان اللاعبون الجزائريون قد جرحوا أنفسهم بأيديهم استعداداً «للمعركة».
وشجع هذا التعامي الإعلامي كل الشوفينيين في الجزائر على المجاهرة بمقت المصريين بل الندم الصريح على استشهاد جزائريين في أكتوبر 1973!! وبفضل الصحافة، تعمم السخط على «سوء الاستقبال» المصري إلى قطاع أوسع من الرأي العام. وبالرغم من أن المنطق كان يدعو إلى عدم إجراء هذه المقابلة، رفضت الفيدرلية الدولية لكرة القدم (وهي هيئة يهمها الربح قبل كل شيء) تأجيلها، فالتوتر ضروري لجمال كرة القدم وسحرها وجاذبيتها كما يعلم الجميع.
أجريت المباراة وانتهت بفوز مصر، لكنها لم تحسم أمر التأهل، ففرض على الفريقين أن يتقابلا مجدداً يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر في الخرطوم. بقي الفريق الجزائري محاصراً داخل الملعب طوال ساعتين لأسباب يرجح أنها أمنيّة. وما إن خرج المشجعون الجزائريون من الاستاد حتى حوصر فوج منهم من طرف مشجعين مصريين. حوصروا فوقع أحدهم وظنه بعضهم مات (أو فضل أن يظنه كذلك) ولم يمنعه التأثر من تصوير المشهد كاملاً لبثه على اليوتيوب.
نُقل الحصاران على الإنترنت، وبدل أن يقارن أغلب الإعلام الجزائري تصرف هؤلاء المشجعين بتصرف بعض «أشقائهم الجزائريين» المعروف في مباريات الدوري، رآه دليلاً على أن الأمر كان «مصيدة» مبيّتة. وبدل أن يرى احتجاز الفريق الجزائري في الملعب دليلاً على عجز الشرطة المصرية عن تأمين تنقل اللاعبين، رآه مؤامرة تستهدف تدمير أعصابهم. شُحن «عشاق الكرة» في الجزائر فقصدوا وكالات شركة أوراسكوم ودمروها واعتدوا على موظفيها المصريين، وكأنهم هم من قذف الحجارة على حافلة منتخبهم، ولم ينفع هذه الشركة أنها وعدت بتمويل سفر 10 آلاف جزائري إلى السودان.

اكتشف الإعلام في البلدين، وهو يرى مبيعاته تقفز بصورة جنونية، أن الذود عن الوطن يتيح ربح الكثير من المال!
واختلطت الشوفينية بالوطنية مبررة بـ«سوء الاستقبال المصري»، وامتدت لتشمل صحفاً بقيت في منجى منها بدافع الضمير المهني أو تطبيقاً لأوامر التهدئة الرسمية. أما في مصر، فلم يكتف الجزء الأكبر من الإعلام بإدانة العنف ضد المصريين، بل تحدث بتعال كبير عن «همجية الجزائريين»، حتى خُيّل لنا أننا نقرأ كتّاباً استعماريين لا «إخوة أشقاء»، واستشهد عليها بأحداث عنف مماثلة وقعت في فرنسا. رأينا «المصري اليوم» (بعدما تابت عن حملة الورود للجزائريين)، تكتب: «الشغب الجزائري يمتد من القاهرة إلى باريس»، ونسي كاتب المقال أن «الشغب الجزائري» مستمر في فرنسا منذ بداية الثمانينيات، لأسباب اجتماعية واقتصادية لا علاقة لها في أغلب الأحيان بمصر أو كرة القدم.
عبقت الأجواء بحب الأوطان ففطن إلى ريع الوطنية النظامان. لم يعودا يكتفيان بدعوة سفير البلد الخصم لتأنيبه في ما أصبح يشبه الروتين الممل. بدآ يتنافسان على «مد الجسور الجوية نحو الخرطوم». لم يمد جسر جوي واحد لإغاثة ضحايا الزلازل في الجبال الجزائرية النائية، ولا لنقل جرحى حوادث القطار التي تحصد أرواح المئات في صعيد مصر، لكن أحداً لم يذكّر بذلك، فالجميع «حكومة ودولة وشعباً» كان موجهاً بصره إلى السودان. في ظرف يومين، نقل من الجزائريين إلى الخرطوم مثلما نقل من جنود لنصرة مصر في حرب 1973، ونقل من المصريين إليها ما كان قد يكفي لمواصلة عبور القنال.
وأجريت المباراة في جو مشحون، لا ذكر فيه لبن بلة وعبد الناصر. انتهت بانتصار الجزائر وتلتها مباراة غير كروية بين مشجعي البلدين في شوارع العاصمة السودانية. تذرعت بعض الصحف المصرية بهذه المواجهات للتنديد مجدداً «بعنف الجزائريين»، فقرأنا تصريحاً لـ«الإعلامي البارز» طارق علام يصف الشعب الجزائري بأنه «أحقر شعوب الأرض»، وقرأنا في «المصري اليوم» عناوين عنصرية عن «الوحشية الجزائرية» وتقارير عن أحداث وهمية منها «تحذير ألمانيا للمصريين من إظهار هوياتهم» خوفاً من بطش الجزائريين. أما بعض الصحف الجزائرية فلم تنسها نشوة النصر الحديث عن الانتقام، فكتبت «أخبار اليوم» عن «ثأر المنتخب الوطني للدماء الجزائرية التي سالت في قاهرة العار»، وتحدثت «الشروق» عن «نفاق مصر»، في خلط واضح بين الدولة المصرية ووسائل الإعلام فيها و80 مليون مصري.
نجح الإعلام في تحويل الاهتمام الشعبي بتصفيات كأس العالم إلى بضاعة. اختلق مباراة وهمية بين الشعبين ورسّخ في الأذهان أنهما عدوان، فسالت دماء الجزائريين والمصريين (ولم تختلط كما في ماضي الأخوّة السعيد). من سيذكر اليوم أن في الجزائر جمعية لقدامى محاربي حرب أكتوبر 1973 وأن جميلة بوحيرد لا تزال بطلة جيل كامل من المصريين؟
* صحافي جزائري