في 4 آب الماضي، توفيت عاملة نيبالية، التقارير الأمنية تحدثت عن انتحار، فيما يشير ملف القضية إلى كدمات على وجهها. في الأسابيع الستة الأخيرة، سُجل «انتحار» ست عاملات أجنبيات، فيما يطالب المهتمون بتحقيقات جدية
بيسان طي
في 11 الشهر الجاري، عُثر على جثة أنجيت ر. إنها فتاة من مدغشقر، عشرينية، ماتت معلّقة بواسطة حبل عند باب غرفة مشغّليها في إحدى بلدات المتن. جاء في تقارير أمنية أن «المعلومات الأوّلية تشير إلى أنها شنقت نفسها». تيزيتا يميليا فارقت الحياة بعدما سقطت من شرفة مشغّليها ، ابنة الـ26 ربيعاً «عاملة أثيوبية» مجهولة، بعد وفاتها احتلت صورتها مساحة في وسائل الإعلام، فتاة سمراء مرمية على الأرض ومن رأسها وفمها تسيل الدماء. كُتب أنها انتحرت، وأن مشغّلتها لاحظت أنها تتصرف بعصبية. حضر إلى المكان رجال الأمن والأدلة الجنائية والطبيب الشرعي «لإجراء المقتضى»، أُقفل الملف سريعاً. في اليوم التالي جاء في بعض الصحف أن تيزيتا انتحرت.
في بلدة صريفا، وُجدت عاملة أجنبية ميتة، جثة معلقة بحبل مربوط بغصن شجرة. أفادت التقارير الأمنية أن الفتاة انتحرت. بسرعة طويت صفحة ملفها، ليبقى في الذاكرة مشهد شابة رُبط مصيرها بحبل، شابة لا ملامح لها، بلا اسم، قد تكون نحيلة أو ممتلئة، عشرينية أو مراهقة، قد تكون إثيوبية أو نيبالية أو بنغلادشية أو... المعروف أنها عاملة أجنبية تعمل في منزل، لدى أسرة في لبنان، وأنها ماتت في شهر تشرين الأول 2009 «الشهر الدامي لعاملات المنازل»، وفق بيان أصدرته قبل أسابيع منظمة «هيومن رايتس ووتش»، حيث سُجلت وفاة ثماني عاملات منازل مهاجرات، أربع منها صنفتها محاضر الشرطة وتقارير سفارات العاملات بأنها عمليات انتحار.
دقت المنظمة الدولية ناقوس الخطر، وطالبت الحكومة اللبنانية بالتحقيق في أسباب هذه النسبة العالية من الوفيات في صفوف هذه الفئة من العمال، إذ إن في لبنان 200 ألف عاملة منزل معظمهن من سريلانكا والفيليبين وإثيوبيا.
القضية لم تنته فصولها في بلد يشهد أسبوعياً وفاة عاملة أجنبية على الأقل، وترتفع بينهنّ نسبة العاملات اللواتي تُسجل التقارير أنهن قضين انتحاراً. هذا الشهر، سُجل انتحار عاملتين، وجدت كل منهما معلقة بحبل في إحدى غرف منزل مشغليها، وقد أقفل ملفها باعتبارها منتحرة.
أخيراً، يُعاد تسليط الضوء على عاملة نيبالية تُدعى س. غ. ماتت في 4 آب الماضي بطلق في بطنها، وجدت جثتها في منزل مشغلها في البقاع، وقال الأخير إنها انتحرت. في ملف القضية إفادة رجل أمن شاهد جثتها، قال إنها امرأة في العقد الثالث من العمر، على وجهها آثار كدمات وبقع على الجهتين اليمنى واليسرى من الفك وتحت العين للجهة اليسرى، كما يتضمن الملف إفادة بإيداع العينات من الإفرازات المهبلية ـــــ التي سلّمها الطبيب الشرعي ـــــ لدى مكتب المختبرات الجنائية في بيروت. في 17 آب، صدرت إفادة رسمية بالسماح بنقل جثة س.غ. إلى بلادها... وغاب ملف قضيتها ليلفّه الصمت. لماذا تنتحر عاملات أجنبيات في لبنان؟ سؤال يجيب عنه المتابعون لهذه القضية بتساؤل آخر: لماذا ينتهي التحقيق في موت هؤلاء بسرعة «قياسية»؟ وعلى أي أساس يصنّف موتهن انتحاراً؟
نديم حوري، الباحث في منظمة «هيومن رايتس ووتش» قال إن التحقيقات في موت هؤلاء الفتيات لا تجري بالجدية الكافية. معظم التقارير ترتكز على إفادة رب العمل، المحققون لا يسألون ما الذي يدفع العاملة إلى الانتحار مثلاً؟
على أي حال، يبدي كثير من الناشطين في قضايا حقوق الإنسان عدم اقتناعهم بجدية التحقيقات في وفاة أو «انتحار» هؤلاء العاملات، هل يُسأل الجيران مثلاً عن ظروف عيش هؤلاء مثلاً؟
الأهم بالنسبة إلى المهتمين بحقوق العاملات الأجنبيات، هو البحث عن الدوافع التي قد تدفع إلى الانتحار، يرفضون الكلام المكرر عن «حالات عصبية»، ويسلطون الضوء مجدداً على الوضع السيئ الذي تعيش فيه عاملات منازل، محرومات من معظم حقوق العمال. ناشطون في منظمات دولية يذكّرون بأن القانون اللبناني لا يسمح بدخول المنازل لمراقبة كيفية معاملة العاملة لفترة طويلة وبدقة. المحامي دومينيك طعمة سأل هل يجري التحقيق في ظروف عيش العاملة؟ أين تنام؟ كم ساعة تعمل؟ أما حوري فتحدث عن ضغوط يعاني منها عدد كبير من العاملات، حيث يحتفظ رب العمل بجواز السفر، ويُقفل الباب على العاملة، وتُمنع من الخروج وحدها، وقد لا تتلقى راتبها على مدى شهور، رغم أنها تشتغل لساعات طويلة، وتبقى جاهزة لتلبية طلبات أهل البيت طيلة الوقت. هذه المعاملة السيئة تعدّ السبب الأول الذي يدفع بعاملات إلى الهروب من المنازل، بعضهن يتعلقن بحبال أو شراشف، ما يؤدي إلى سقوطهن.
الانتحار إذا صح إنما يسلط الضوء على معاناة كبيرة تعيشها هؤلاء الفتيات. حوري تحدث عن عاملات سقطن من شرفات، فأدى سقوطهن إلى إصابات بالغة، إحداهن من النيبال، لم تشهد معاملة جيدة في منزل مشغليها، نظرت يوماً من النافذة فلمحت الثلج على الجبل، حسبت أنها إن قفزت فستصل سريعاً إلى ذلك الجبل... في النيبال!
تحدث حوري عن العقد الموحد للعاملات الأجنبيات الذي بدأ العمل به منذ سنة تقريباً، ورأى أنه خطوة مهمة إلى الأمام، حيث نص

لماذا ينتهي التحقيق في قضايا «انتحار» العاملات الأجنبيات بسرعة «قياسية»؟
على تحديد ساعات العمل بعشر، ولكن تطبيقه يحتاج إلى مراقبة شديدة، من هنا أهمية تفعيل دور مفتشين متخصصين بمراقبة عمل عاملات المنازل وكيفية معاملتهن. حوري انتقد نظام الكفالة، فالخادمة عندما تواجه مشكلة في التعايش مع مشغليها تلقى صعوبة أخرى في إيجاد مرجعية تشتكي إليها، فهي إن هربت من المنزل وأرادت التقدم بدعوى ضد رب العمل، فستفقد السند القانوني الذي يسمح لها بإقامة شرعية في لبنان وانتظار بت الدعوى، أي إنها بهروبها تفقد حقوقها.
المحامي طعمة دعا إلى اتباع المثال الأوروبي، حيث يحكم القانون بتدابير قاسية ضد من ينتهك حقوق عمال المنازل، ولفت إلى أن عاملات المنازل في لبنان استثنين من قانون العمل في لبنان بموجب المادة 7. إضافة إلى أهمية التشريعات والقوانين، ثمة مشكلة في ذهنية التعاطي مع العاملة الأجنبية، أي بالثقافة المجتمعية التي تسمح بنظرة دونية تجاه أبناء الدول الفقيرة، ومن هذا المنطلق يصير انتهاك حقوق العاملات الآتيات من تلك الدول أمراً مقبولاً، هكذا يمر مرور الكرام خبر أو دراسة عن وفاة عدد منهن، فمن اللافت أن المجتمع اللبناني لم يكترث كثيراً لما نشرته منظمة «هيومن رايتس ووتش» قبل نحو عام، فأُعلنت وفاة 95 عاملة أجنبية بين كانون الثاني 2007 وآب 2008، أربعون حالة منها صُنفت انتحاراً.
بعد نشر هذا التقرير، استمر ورود الأخبار عن وفاة أجنبيات، في بعض الأسابيع كانت التقارير تسجل وفاة أكثر من عاملة، والأسوأ أن مطلب التحقيق الجدي في «انتحار» أي عاملة أجنبية، ما زال مطلباً تُدار له الظهور ولا يجد آذاناً صاغية لدى المعنيين.


غياب المرجع... والأسرة الحاضنة

هل يمكن أن يخطو المرء نحو الموت بقرار يتخذه فجأة، ثم ينفذه على الفور؟ التقارير التي تتحدث عن انتحار عاملات أجنبيات لا تورد أية تفاصيل تتعلق بالصحة النفسية لكل من هؤلاء العاملات في الفترات التي تسبق «الانتحار».
المعالجة النفسية الدكتورة سهى بيطار تتؤكد أن الإقدام على الانتحار يحصل بعد أن يمرّ المرء في حالة فصام، يمكن قراءة ظواهرها بسهولة من قبل من يعيشون أو يحيطون بمن يعانيها. وفي هذه الحالة، فإنه يجدر الاهتمام به حتى لا يتخذ قرار الانتحار.
من جهة ثانية، تلفت بيطار إلى أن العاملات الأجنبيات قد يشعرن بغربة مخيفة في البلد المضيف، وبفصام بين الواقع والمتخيّل، وبذلك لا يعشن حياة متوازنة، ولا يجدن نقطة قياس لتوازن حيواتهن الجديدة. إذا عملت العاملة لدى أسرة تجيد احتضانها، فإن ذلك قد يشعرها بالتوازن وتجد في هذا الاحتضان نفسه مرجعاً لقياس الواقع في الغربة. بعض العاملات لا يتركن بلادهن فقط بحثاً عن وظيفة، بل للهروب أيضاً من واقعٍ أو معاناة ما، ولا بد من التذكير بأن الذي يعيش فصام الانتحار يعاني من ضعف سيكولوجي.