وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

من يحكي للرئيس؟ السؤال منطقي الآن بعد اندلاع معركة «الكرامة الوطنية» في مصر بقيادة الرئيس مبارك شخصياً. وسائل الإعلام تمجد ما نقله وزير الإعلام على لسان الرئيس: «إذا لم تستطع السودان حماية أولادنا فسنرسل قوات لحمايتهم». الرئيس لم ينم ليلتها بعد حكايات مطاردة المشجعين المصريين في شوارع الخرطوم. الحكايات رواها جمال وعلاء، ابنا الرئيس نفسه. وللراوي سحر شخصي على ما يبدو، لأن الرئيس خرج عن عاداته (وسهر) وعقلانيته (وهدد) وانشغالاته (واهتم بكل تفصيلة صغيرة في رحلة العودة).
الروايات أخرجت الإعلام المصري عن صوابه، وتفجرت هستيريا تتخذ شعارات «الوطنية» واستيقاظ الوطن وصحوة الشعب، بالطبع تحت قيادة الرئيس (سياسياً ورسمياً) وعلاء ابنه (شعبياً).
علاء هو الراوي الأساسي للرئيس وللشعب. مكالماته في البرامج التلفزيونية أعادته إلى الحياة العامة بعد اختفاء أعقب أساطير وحكايات عن مغامرات له في عالم المال والتجارة وعوالم أخرى أكثر إثارة. جمال اختار بوابة السياسة ليكون مدخله المختلف عن شقيقه.
عودة الشقيق الأكبر (علاء) رفعت رصيده لدى شعب مجروح. كرامته مهزوزة من الحكايات المروية عن ليلة المباراة المشؤومة. الحكايات أيقظت الجراح القديمة كلها. لكن طبول الحرب في الإعلام وجهتها باتجاه الجزائر. أخرجت الإيقاعات المدوّية الحزن عن وقاره وتركت القيادة السياسية الحبل على الغارب للغوغاء تستدعي إلى شاشة المعركة غرائز همجية وعنصرية وعدوانية.
الشعب المجروح أعجبته اللغة العنيفة وصلابة الموقف من الإعلام إلى السلطة. داوته العدوانية كما يداوى المصاب بنار كاوية. لكن جنرالات الردح التلفزيوني لم يتقنوا الطبخة، لأنهم غالباً ليسوا محترفين، لا يمتلكون الكفاءة ولا الوعي أو الأخلاق المناسبة في مثل هذه المواقف.
صنعت وسائل الإعلام من علاء مبارك أميراً للحرب الشعبية ونصّبت أباه الرئيس بطلاً للكرامة المستعادة، وكأن أحداث ليلة الخرطوم جاءت في موعدها مع القدر السياسي تماماً.
لم يستطع النظام اقتناص فرحة الفوز، فقررت بعض أجنحته، على ما يبدو، استثمار لحظة الاكتئاب والهزيمة. الملايين في مصر شعروا بالخيبة، غالباً ليس بسبب هزيمة الفريق الكروي فقط، بل لتوقف الكرنفال والبهجة وفرصة الحرية المختلسة من أيام الملل والرتابة واليأس والعجز.
الكرنفال انتهى مبكراً، وهذا سر الصدمة لدى قطاعات عريضة من شعب لا يعرف الفرح العام وحريته مقيدة بآلاف الممنوعات. كان هناك من يخطّط لسرقة الكرنفال وتحويله إلى سرادق انتخابي. ومن يريد تحويله إلى «معركة مصير» في لحظات حساسة داخل أروقة السلطة. وهذا سر التوسع في إرسال الوفود الرسمية (نواب وحاشية الحزب الوطني) وطبّالي المعارك الانتخابية، لا الجمهور المحترف في كرة القدم أو حتى الجمهور المشتاق إلى البهجة. الغالبية كانت من جمهور المواكب الرسمية.
تصوروا أنها لحظة مجد. وحشدوا خلفها آلافاً من الطيّبين المنتظرين فرحة انتصار. لكن اللحظة ضاعت. ويبدو أن هناك من رأى في الهزيمة فرصة أخرى لسرقة بطولة الكرامة. ساعدتهم طبعاً الطبيعة العنيفة لجمهور الجزائر (احتفالات الانتصار على الفريق المصري راح ضحيتها ٢٤ قتيلاً في الجزائر وحدها، فما بالك لو كانت احتفالات خسارة). وساندتهم خطة نظام الجزائر في الاحتفال بأي ثمن.
ماكينة السياسة شرسة وعنيفة التهمت متعة كرة القدم، وسرقت منها الإثارة والمتعة وحوّلتها إلى شيء بليد وتافه لا يستحق سوى الرثاء والقرف. ماكينة الوطنية الهدارة على الفضائيات دفعت مصر كلها إلى هستيريا تحولت مع مرور الأيام إلى مسخرة؛ تلميع النظام وتنصيب أمراء لحرب الشعب المنتفض دفاعاً عن كرامته.
أمراء الحرب الشعبية لم تنتعش ذاكرتهم بهجمات يومية على كرامة المصريين في مراكز الشرطة وفي التظاهرات، حيث تنهش قوات الأمن الروح لا الكرامة فقط، وفرق الكاراتيه أقسى ألف مرّة من جمهور الكرة المجنون أو الموظّف من جانب جناح في السلطة الجزائرية. وعصابات اغتصاب المتظاهِرات صناعة لفتت أنظار العالم إلى القاهرة منذ أربع سنوات.
الكرامة لا تولد فجأة، والدفاع عنها يبدو الآن ضمن برنامج تسويق سياسي أو بروباغندا ما قبل الانتخابات. الخطير في تصنيع أمراء حروب الكرامة أنه ليس تصنيعاً سلمياً، كما هي العادة، لكنه متفجرات مشحونة بلا هدف.
الوطنية تحولت إلى هستيريا خطر. والخطابات المهووسة فجرت شوفينية مدمرة. استبيحت فيها القيم والأفكار وتحولت البذاءة إلى نشيد وطني، والعدوانية إلى بطولة شعبية، والكرامة إلى كعبة ترفع فيها صور أمراء عائلة تقود بلداً كاملاً في حرب الانتقام.