في بيروت، نتناول الفطور التقليدي، المناقيش، ومعها خضار نعتقد أنها جلبت من بعيد، لكن نظرة واحدة حولنا تكفي لنكتشف أنها قطفت من حقل قريب. فالزراعة المدينية منتشرة في لبنان، وكذلك استغلال العمال أحياناً
لوسيل غارسون
بيروت ليست مكاناً للاستهلاك فقط، بل إنها مكان للإنتاج الزراعي أيضاً. وفي العديد من مدن العالم، وحتى في أكثر العواصم شهرة ومدنية، هناك مساحات مخصصة للزراعة. فالزراعة المدينية شائعة جداً في أميركا اللاتينية وفي أفريقيا. في داكار مثلاً، تخصّص البلدية ثلث الأراضي الزراعية المملوكة منها للزراعة؛ وفي الأرجنتين أو في البرازيل، تدعم الزراعة المدينية سكان المدن كثيراً، فتمثّل مصدراً رئيسياً في الحماية الغذائية للسكان؛ وفي فرنسا أيضاً، عادت الحدائق الزراعية وظهرت منذ بضع سنوات في المدن، ففي بعض الأحياء الباريسية، قد نرى كل مكوّنات حساء الخضار في مساحات بالغة الصّغر لا تتخطّى مساحتها بضعة أمتار مربعة. بالإضافة لهذا السياق العام، تتميّز الأماكن الزراعية في مدن الشرق بأنها تمثّل جزءاً من التقليد المدني المتوسطي الذي أدخل أساليب الزراعة التقليدية في نسيجه الحضري وبالتالي لم يستغنِ عن الزراعة حتى في المدن الكبيرة.
والمقشمة في اليمن أكبر دليل على ذلك، إذ لا تزال تلك الأراضي الزراعية الصغيرة في صنعاء تعتمد في ريّها على مياه الوضوء الآتية من الجامع، والتي تجمع في خزانات تدعى «البركة»، قبل أن تدار نحو الأراضي الزراعية المحتاجة إلى المياه.
وفي عمان، تزرع مختلف أنواع الخضار والفواكه، من العنب والزيتون والمشمش والسبانخ والبصل والثوم، إلى العديد من الحشائش والنباتات الطبية على مساحات صغيرة تبلغ مساحة كل منها حوالى 9 أمتار مربعة، حتى أن المركز الكندي للبحوث والإنماء قد قدّر أنه من بين كل ست عائلات، هناك واحدة تعتمد على حديقتها الخاصة لإمدادها بكل حاجيات مطبخها من خضار وفاكهة.
في هذا السياق، ليست بيروت استثنائية. وتقدم المدينة مشهداً مماثلاً للدول المحيطة بها، إذ من مناطق الأشرفية حتى الضاحية، تتوزّع أشجار البلح وشجيرات الموز على طول الأرصفة وفي المستديرات الواقعة بين الشوارع. فبيروت ليست مكاناً للاستهلاك فحسب، إذ تكثر في هذه العاصمة وفي ضواحيها (وخصوصاً في منطقة الشويفات)، وعلى طول خط الساحل في لبنان، المساحات الخضراء والأراضي المزروعة بالحمضيات والخضار وبنباتات الزينة. وفي قلب العاصمة.
في فرن الشباك، وهو حي مكتظ بالسكان، بالقرب من البنايات العالية التي تتدلى عن شرفاتها نباتات الزينة، هناك جزيرة زراعية محاذية لسوق الخضار، زرعت تحت أسقف الخيم البلاستيكية المنتشرة عليها مختلف أنواع الخضار، من الخيار، للبندورة والفليفلة، واللوبياء، بالإضافة إلى بعض الحشائش، والفريز، بينما خصّصت بعض الخيم الأخرى لزراعة نباتات الزينة التي تقدم في مناسبات عديدة كعيد الأم وعيد الميلاد، وبعضها استوائي استورد من الصين.
وتتفاوت مساحة هذه الأراضي الموزّعة في مختلف المناطق بين 2 و10 دونمات، يستخدم المزارعون لريّها مياه آبار صالحة للشرب، بينما يؤمّنون شتولهم من الموزعين المعتمدين الذين يوزعون الشتول المستوردة التي تزرع في فرن الشباك لتكون نوعاً من الزراعة الثورية في المدينة. إلا أن هناك تفاوتاً في الأنماط الزراعية المعتمدة، فبعض المزارعين يتكلون على الأدوية الزراعية لتحسين إنتاجهم، فيما غيرهم يبتعد كل البعد عن المواد الكيميائية ويعتمد الزراعة البيولوجية قدر المستطاع، لأنها الأوفر والأهم، لأنها صحيّة، وهذا هو بالضبط ما يطلبه المستهلكون الذين يقصدونهم من كل حدب وصوب حتى يشتروا خضارهم وفاكهتهم الصحية.
فمنذ أعوام عدة، ومع التطور الذي طرأ على الزراعة، بدأت الاهتمامات بوضع الكيميائيات الزراعية تطال المستهلك، إذ إن كثرة هذه المواد تؤثّر سلباً على صحة الإنسان كما على النبات ذاته، بالإضافة إلى استخدام مياه الري غير المكررة التي تحمل عناصر معدنية ثقيلة مؤذية. وقد أدّى خوف المستهلكين هذا إلى تشديد الطلب على نوعية المنتج، ما أدى إلى إحداث تغيير نحو الأفضل.
إلا أن هناك نوعاً آخر من المياه الذي تسقى به الخضار لا أحد يتحدّث عنه: عرق العمّال اللبنانيين والسوريين والمصريين وغيرهم ممن تركوا ديارهم أو المناطق التي يقطنونها لملازمة الحقل الذي يعملون فيه في المدينة، فهؤلاء يعيشون في خيم من الخشب والصفيح ولا يزورون عائلاتهم سوى في الأعياد الكبيرة.
هذا العرق يجسّد نوعاً آخر من الاستغلال، يضاف إلى استغلال الأرض والموارد الذي قد تسبّبه تقنيات الزراعة المكثفة.
فهل يشعر أحد بطعم هذا الاستغلال في الخيار أو البندورة التي تضفي تلك النكهة الرائعة على منقوشة الصباح؟