قد يعتقد البعض أن تاجر الآثار هو ذاك الشخص الذي تصوّره الأفلام الأميركية: يعيش في منزل فخم، يملك مجموعة من السيارات الفارهة ولديه عدد غفير من رجال الأمن. ولكن الصورة الحقيقية ليست كذلك! فتجار الآثار في صور قد يبدون عاديين وكثيراً ما يدّعون «عدم المعرفة»، واللقاء بهم عسير
علي السّقا
يروي حسين (اسم مستعار) حكايته منذ دخوله عالم التنقيب وبيع الآثار: «بدأت قصتي منذ خمسة وثلاثين عاماً، كنت يافعاً، أشتغل موظفاً عادياً في إحدى المؤسسات المحاذية للبحر. وبدأت حينها أسير مع زميل لي كل يوم على الشاطئ. ولفت انتباهي ذات مرة قطعة أرض متصلة بالبحر، وفي أسفلها «سراجات». وهكذا، بدأنا نغطس ونبحث عن القطع الأثرية، وكنا كلما عثرنا على شيء نبيعه لرب العمل لقاء مبلغ زهيد. ولكنني قررت أن أشق طريقي في هذه المهنة، فبدأت أبيع ما أعثر عليه لبعض التجار المشهورين في صور حينها، وتحديداً للحلاق توما فاخوري وفضول وأبو رفول. وعايشت العصر الذهبي للمهنة خلال الحرب. وأعرف اليوم أيامها الصعبة».
يتذكر محمود (اسم مستعار)، تاجر أيضاً، ويبدو أنيقاً على عكس صديقه حسين، كيف تعلم «المهنة»: «ولدت في مدينة أثرية، وكنت أقطن في محاذاة البحر». يصمت قليلاً قبل أن يضيف: «كان عمري سبع سنوات عندما كنت ألعب، وشاهدت للمرة الأولى عدداً من الرجال يجلسون على الشاطئ، وإلى جانبهم قدور من نحاس مملوءة قطعاً معدنية وفخارية يزيلون ما علق عليها من رمال. فسألت أحدهم: ماذا تفعل؟ ما هذا؟ فابتسم قبل أن يجيبني: تعال اجلس. هذا ذهب، وهذا حجر، هذا «سحتوت»... هذه قطع مدفونة في البحر». هكذا، بدأت الغطس للتنقيب عن الآثار في البحر، مثل الكثيرين من أبناء جيلي».
يتفق حسين ومحمود على أن «التنقيب عن الآثار فن، والاتجار بها فن أيضاً، ومن المؤسف أن الكل أصبح اليوم يعدّ نفسه خبيراً بها». ويقولان إن المرحلة الأكثر إثارة في هذا الشأن هي الممتدة من أوائل السبعينيات إلى أوائل التسعينيات. فقد كان التنقيب براً وبحراً في أوجه، وكذلك نشاط التجارة المحلية والخارجية. فتلك المرحلة شهدت عمليات تهريب واسعة لم تطل آثار صور وحدها، بل شملت عدداً من قرى الجوار، منها على سبيل المثال لا الحصر، حناويه ودير كيفا وبرج الشمالي. كانت أعمال التنقيب البري والبحري في حينها تسري على قدم وساق دونما رقيب أو حسيب، وكانت حصيلتها كميات مهمة من القطع الأثرية من تماثيل فخارية وأباريق زجاجية وسراجات وعملات معدنية تعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية والفينقية والإسلامية. كان هامش الحرية كبيراً في ذلك الوقت، أما الآن فإن العمل في هذا المضمار يزداد صعوبة»، بحسب حسين.
يكشف محمود أن طريقة تنظيم العمل «حلقة واسعة تضم المنقّبين والتجار الصغار والسماسرة والتجار الكبار أيضاً». أما أعمال التنقيب فيقوم بها أبناء المنطقة أو «خبراء» اختصاصيون، والربح من عمليات البيع ضئيل، ويطال أشخاصاً معدودين فقط. المنقّبون يبيعون القطع لعدد من التجار الوسطاء أو السماسرة، وإذا وصلوا إلى الملقّبين بـ«الرأس الكبير»، إذ إن عملهم لا يقتصر على نطاق جغرافي محدد.
يروي حسين أنه خلال السنوات الماضية لم يكن هناك إلا «سبعة سماسرة يشترون منا كل القطع. ولكن لم يبق منهم على قيد الحياة سوى رجل واحد أصبح منذ زمن بعيداً من الأضواء، واثنين من آل النصراوي صدرت بحقهما مذكرات توقيف، ويقال إنهما هربا واستقرا في مخيم الرشيدية جنوبي صور».
أما عن تهريب القطع إلى الخارج وبيعها في الأسواق العالمية، فتلك شبكة كبرى متداخلة. المعروف أن تجار صور الكبار كانوا «يبيعون» القطع إلى تجار كبار في بيروت، لهم من السطوة قدر كافٍ ليتمكنوا من تهريبها إلى خارج البلاد. يرى حسين أن «التهريب سهل»: «يتم ذلك من طريق تعريف البضاعة بأنها مقلدة، وتقسّم البضاعة الأصلية إلى قطع، توضع كل واحدة منها داخل صندوق مملوء قطعاً مزورة، أو عبر وضعها في إطارات السيارات أو داخل سخانات المياه بعد قصّ أسفلها ثم تلحيمه.
بعد هذه التجربة الطويلة التي خاضها حسين وأدرك أسرارها، بات يسمّي التنقيب عن الآثار والاتجار بها «العالم الذي يشبه الحلم»، والمنافسة غير الشريفة بين تجار الآثار المزوّرة طمعاً بحفنة من الدولارات كان ثمنها مقتل «جوجو» على يد تاجر منافس له، ومنقّب آخر قضى غرقاً قبالة شاطئ الصرفند.