عمر نشابةإنّ الإعلان الأخير لولادة الحكومة (بعد مخاض عسير) يُشير بحدّ ذاته إلى تراجع ديموقراطية الحكم في لبنان، إذ إن الحكومة الديموقراطية لا تولَد إلا بعد نيلها ثقة (مجلس) الشعب، أي البرلمان.
لكن الوزراء الجدد تماشَوا مع نسف هذا المبدأ الديموقراطي، فتسلّموا من وزراء تصريف الأعمال الوزارات التي يفترض أن يتسلّموها بعد نيلهم الثقة، وبدأوا توقيع المستندات الرسمية. «الحكومة ستنال الثقة الأكيدة بأغلبية ساحقة» يردّ أحد المقرّبين من رئيس الحكومة مبرّراً.
لكن المشكلة لا تكمن في نيل الثقة أو عدمه، بل في احترام مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث الذي يُفترض أن يتميز به الحكم الديموقراطي، فتكون السلطة القضائية محصّنة من تدخل المسؤولين في السلطة الإجرائية، وتكون السلطة التشريعية مستقلة، بحيث يمكنها مساءلة الحكومة ومحاسبتها من دون تردّد أو حرج.
«لكنها حكومة وفاق وطني، يعني أن الكتل البرلمانية الرئيسية ممثلة فيها، وبالتالي الثقة مضمونة مسبقاً». يدلّ ذلك بالتحديد على التراجع الديموقراطي الذي تشهده الدولة. فكيف يمكن أن يسائل النواب الحكومة ويحاسبوها على أدائها فعلياً إذا كان حزبهم أو تيارهم السياسي أو زعيمهم المذهبي أو الطائفي ممثلاً فيها؟
لكن ذلك التراجع الديموقراطي لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل شهد النظام اللبناني سلسلة تجاوزات لا يمكن أن تؤدي إلى أفضل حال مما نحن فيه. ومن بين تلك التجاوزات:
1ـــــ قانون انتخابات غير ديموقراطي اعتُمد خلال الانتخابات الأخيرة، حيث لا يمثّل الخاسرون في البرلمان، حتى لو بلغت نسبتهم أقل بقليل من نصف الناخبين. وحيث يمكن أن يفوز مرشح لا يعرفه الناس في موقع نائب عنهم، وذلك بسبب ضمّه إلى اللائحة الانتخابية للزعيم الإقطاعي أو الطائفي أو السياسي (أو كلّ تلك الصفات مجتمعة).
2ـــــ الغياب الفعلي شبه الكامل لديموقراطية الأحزاب والتيارات والجمعيات والهيئات غير الحكومية. فلم تشهد الأحزاب والتيارات الرئيسية تبديلاً في قياداتها من خلال انتخابات داخلية، كذلك فإن معظم القرارات التي تصدر عنها لا تخضع لموافقة أغلبية أعضائها.
3 ـــــ إهمال آليات التفتيش أو إضعافها، إذ لا رئيس لديوان المحاسبة حالياً، بينما يعاني التفتيش المركزي ضعفاً وتهميشاً. وفي المؤسسات غياب لمبدأ التفتيش المستقلّ عبر إخضاع المفتّش لسلطة المدير أو مجلس الإدارة، ما يعرقل مهماته أو يحدّها.
4 ـــــ غياب الشفافية، فلا يمكن أن يطّلع نائب على تفاصيل موازنة الإدارات العامة، ولا يمكن أن يعلم الوزير مجموع ما يصرف من خزينة الدولة لتغطية نفقات الطعام في السجون مثلاً. فكيف يمكنه أن يصوّت على ميزانية الدولة العامّة؟ وأين التدقيق والمحاسبة؟
5 ـــــ أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى غياب النضوج الديموقراطي، وخصوصاً لجهة مفهوم التوزيع الوظائفي في هيكلية النظام. إذ يتصرّف معظم النواب كأنهم لا يدركون أن حدود وظيفتهم هي النيابة عن المواطنين، ويتصرّف معظم الوزراء كأنهم لا يدركون أنهم يخضعون للمساءلة والمحاسبة، ويتصرّف معظم المواطنين كأن مؤسسات الدولة ليست ملكاً لهم والمسؤولون فيها ليسوا لخدمة الشعب.