المدى من سمات البحر، ذلك الفضاء الذي يبدو كأنه مفتوح على مساحة هائلة من اللامحدود. ومن سمات المدى أنه آسر للحواس، يتسرب إليها من نفسه ويتشكل فيها على هيئة شغف. هذه هي حال علي شمعوني، الشغوف بالبحر ومداه، حب القبطان الأول
علي السقا
... وعلي الذي أصبح اليوم، كلما سلكت به السيارة الطريق الساحلية، لا يجد بداً من إطلاق العنان للسانه كي يفرج عن غيظ مكظوم من الأبنية الممتدة على طول الطريق البحرية. فتلك الأبنية أصبحت تفرض نفسها حاجباً بينه وبين البحر، حتى تراه ينتظر فسحة ما بين مبنيين أو أكثر يتحين منها فرصة النظر من أعالي سنواته السبعين إلى امتداد البحر.
علي شمعوني المولود عام 1931 في مدينة صور جنوب لبنان، لأب صياد، وداخل بيت محاذ للبحر، كان، على قوله، «واعياً في سن مبكرة للحرب العالمية الثانية، وللمراكب الخشبية التي كانت تخرج من ميناء صور محملة بالتين وقصب السكر في اتجاه طرابلس وصيدا».
كان والد علي «ريّس مركب»، أما علي ابن الأعوام السبعة فكان يرافق والده في سفره إلى فلسطين ومصر وتركيا على متن مركبه المستأجر والمحمل بالفواكه أحياناً، وأحياناً أخرى بحجارة «الخفّان» التي كانت تتوافر على شواطئ صور وتستعمل في بناء البيوت.
قد يفوق شغفك بالبحر شغفك بالمرأة التي تحب
لم تقتصر تلك الأسفار في ثلاثينيات القرن الماضي على التجارة، بل تعدتها إلى نقل الوافدين «الأرمل» (الأرمن) بحسب علي، من متن البواخر التي كانت تقلهم من بيروت وطرابلس إلى صور، وكذلك لاحقاً عندما نقل ما تيسر لمركبه من أحمال فلسطينيين لجأوا إلى لبنان هاربين عبر البحر في عام 1948.
هي أيام معدودة تلك التي غاب فيها علي عن البحر: «غبت عن البحر سبعة أيام لتقديم امتحانات السرتيفيكا»، لأنه كان، وهو بعد في عامه الثامن، يواظب على التسلل هارباً من المدرسة باتجاه البحر والمركب. تشكلت شخصيته وفكره على الإبحار والسفر الطويل. لم يدرس علم الإبحار في كلية متخصصة، لكنه أتقن هذا الفن وبرع فيه. هكذا استطاع ابن الثمانية عشر عاماً أن يتسلم لاحقاً بمفرده ولأول مرة دفة المركب الخشبي حتى «صرت أسافر به إلى بعض المدن اللبنانية، إضافة إلى مصر وتركيا، محملاً بالبضاعة في الذهاب والإياب».
إلا أن عام 1967 كان عاماً مفصلياً في حياته، فلم يعد بمستطاعه الإبحار في اتجاه فلسطين أو مصر «لأن المياه الإقليمية أصبحت تحت سيطرة البحرية الإسرائيلية» ولأنه تاه ذات مرة في عام 1983 ودخل المياه الإقليمية الفلسطينية فاعتقل وسجن على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي لمدة تسعة أيام قضاها قيد التعذيب وهو «معلّق بالزلط».
اضطر علي بعد عام 1967 للسفر إلى أفريقيا. هناك عمل بحّاراً على متن البواخر اليونانية، ثم تعلم كيفية قيادتها بسرعة فائقة، إلى أن أصبح ذات يوم قبطاناً فتحت أمامه بحار العالم.
المخاطرة هي السمة الأبرز في حياة من يعملون في البحر، وهم غالباً ما يدفعون أرواحهم في سبيلها. إنها المخاطرة التي لا مفر منها فهي «متل الحلو والمر لا بد من تذوقه» على قول علي. الحلو والمر تذوقهما علي مراراً، أما أشدّ ذلك المرّ فكان في بحر المانش وتحديداً في منطقة «الفسكاي» أو «مقبرة السفن»، وهي عبارة عن منحدر مائي شديد الدوامات وتكثر فيه الأمواج العاتية. يقول علي متذكراً: «خرجنا بالباخرة من بلجيكا وكنا ننقل على متنها جرافات أوثقنا رباطها، قبل أن ندخل بحر المانش، حيث كانت الأمواج الهائلة الارتفاع تلطم «البابور» من كل حدب وصوب. كنت متسلماً الدفة قبل أن يدعو رئيس الباخرة كل العاملين إلى التجمع في قمرة القيادة. دعا كلاً منا لأن يصلي قائلاً: «المسيحي يصلّب والمسلم بيعرف شو بدو يعمل»، ثم تسلّم الدفة واستدار بالباخرة حتى أصبح الموج يرتطم بها من الخلف فيدفعها إلى الأمام دون أن يقلبها، والمضحك المبكي أن إحدى الجرافات انحل أحدى أربطتها، ولو قدر لها أن تقع لمالت فينا الباخرة وقضينا جميعاً».
عملت مرشداً في وقت لم يعرف فيه أهل صور شكل الباخرة
النجاة من الغرق كانت تعني لعلي بداية جديدة، لكن عمله المستمر في البحر ألقى في روعه شعوراً حاداً بالغربة، ولطالما تملكه الخوف من الموت غرقاً بعيداً عن زوجته وأولاده. هذا الشعور كان ذات يوم دافعاً ليفرغ كل ما في جيبه من نقود، وذلك ثمناً لنقل جثة عامل معهم توفي أثناء سفرهم من تركيا إلى لبنان «ليدفن بين أهله، ليقول أولاده ذات يوم: قبر والدنا هنا في هذا المكان». يقول علي.
تشبه حياة علي إلى حد ما حياة الطيور المهاجرة، ففي كل سفر هناك بحث دائم عن البر. والطريق إليه خرائط بحرية ومسطرة للقياس البحري، وبوصلة. لا يزال يحتفظ بها جميعاً. جاب عدداً من بلاد العالم، من تركيا واليونان ومصر ورومانيا وصولاً إلى إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والبلاد الإسكندينافية، ثم انتهاءً بصور. «التي عملت فيها مرشداً بحرياً ولم تكن تعرف حينها ما هو شكل الباخرة» بحسب علي . شعوب قليلة تلك التي استأنس علي بوجوده بينها. فهو يعتبر أن الإيطاليين واليونانيين والإسبان بوجه خاص، «أناس أوفياء وكرماء. عاداتهم وتقاليدهم قريبة من عاداتنا. عندما تكون بينهم تشعر كأنك واحد منهم».
تتصدر شهادة تقدير ممهورة بإمضاء رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون حائط المنزل. كان هذا بعدما أنقذ علي طاقم الباخرة المصرية التي غرقت قبالة شاطئ صور وكانت محملة بالملح. لكن تلك الشهادة لم تنفعه في ترقية، أو في زيادة راتبه الذي لم يتجاوز حالياً الألف دولار، فيما يتقاضى الآخرون راتباً يناهز السبعة آلاف دولار. رغم أن جسده السبعيني لم يعد يحتمل العمل المضني الذي يقوم به، وهو يفكر في ترك عمله. إلا أنه لا يزال مضطراً إليه للمساعدة في إعالة أبنائه. العمل الذي يبدأ بـ«التوجه بالمركب الخشبي إلى باخرة في عرض البحر. صعود سلالم طويلة تخالها لا تنتهي. تسلّم دفة الباخرة وتمضية الوقت في العبور بين الجزر، ثم ركن الباخرة على الرصيف البحري». جاب علي بلاد العالم، لكنه عاد إلى حالته الأولى. يعيش حياة تشبه حياة صيادي صور، وشظف عيشهم. عيش الصيادين الذي يقول فيه علي «أتعس عيشة وأفقر عيشة، لا يملكون أحياناً ثمن ربطة خبز». لكنه لا يزال عاشقاً للبحر، كحالته الأولى أيضاً، عندما انخطف من حياة المدينة إلى مدى البحر الذي «قد تعشقه كل يوم أكثر من يوم، وقد يفوق شغفك به شغفك بالمرأة التي تحب. سأترك عملي قريباً. سأذهب كل يوم إلى البحر. أضع كرسياً أجلس عليه وأسرح في المدى».


«بيتوتي»

«والله ما صاحبت!» يقول علي ضاحكاً بعدما ألححنا عليه بالسؤال عما إذا كان قد أحب على طريقة البحارة بعض نساء البلدان التي كان يحط رحاله فيها. لكن علي ابن العائلة المحافظة والأب لسبعة أولاد، كان يؤثر البقاء «عازباً» لحين عودته إلى بيته وزوجته وأولاده. لأن «المصاري يللي بدي ادفعها لهيك اشيا، كنت فكر أنو عيلتي أحق فيها».