لا تفرّق الدعارة في لبنان، بين غنيّ وفقير. “خدماتها” متوافرة للجميع. الأسعار تبدأ بأرقامٍ صغيرة، وتصل إلى أرقامٍ خيالية. تكثر مطاردات الجهات الأمنية لبائعات الهوى والقوّادين، لتكتشف دائماً أساليب جديدة لترويج الدعارة
محمد محسن
في الدنمارك، توفّر السلطة الرسمية خدمات الجنس لذوي الاحتياجات الخاصة من المعوّقين، عبر استقدام بائعات الهوى بمعدّل مرةٍ واحدة شهرياً. الخبر مغرٍ من دون شك، ومبعث إغرائه ليس ممارسة الدعارة، بقدر ارتباطه بالدولة التي تبسط سلطتها على انتشار “الرذيلة”. في لبنان، بيع الجسد أكثر إغراءً، إذ إنّك لست بحاجةٍ إلى أن تكون معوّقاً، كي تضطر الدولة إلى تأمين حاجاتك الجنسية. لا يعني هذا الكلام أن لبنان يشرّع الدعارة، لكنّها منتشرة بكثرة، رغم أن النصوص القانونية اللبنانية تمنع ممارستها منعاً باتّاً. في الطرقات وأسرّة الفنادق وشاليهات البحر و“شقق الزبائن”، تبدو سلطة القانون أضعف من رغبات “زبون” طاعنٍ في السن، يستعين بحبةٍ زرقاء لقضاء ليلة حمراء بين ذراعي مومس.
لا يخفى على أحد، توسّع رقعة انتشار “مهنة” الدعارة في لبنان. ولا يختلف اثنان، على أن “مكتب مكافحة الآداب” بعديده القليل جداً (25 عنصراً لمنع الرذيلة والدعارة على كل الأراضي اللبنانية) لن يكون قادراً، مهما تفانى في عمله، على كشف جميع شبكات الدعارة وتحويلها إلى القضاء المختص. حين يبذل المكتب جهوده ضمن إمكاناته المتاحة، فقد تواجَه القضية بتراخٍ قضائي في مكانٍ ما، وفق ما يقول متابعون للملف، ويضيفون إن هذا التراخي قد يكون متعمّداً، وخصوصاً حين يُحكم على مومس أجنبية بالترحيل إلى بلادها، أو تُعاقب زميلتها اللبنانية بالسجن في سجن النساء مدةً تراوح من شهرٍ إلى سنة، مع غرامةٍ مالية حدّها الأقصى 500 ألف ليرة، كما تنص المادة 523 من قانون العقوبات. وقد لا تقضي مومس سوى أيام معدودة في النظارة، قبل “فكّ أسرها” لتعاود ممارسة الدعارة، بطريقة قد تكون أكثر علانيةً. هذا ما جرى مع هيام (اسم مستعار) التي لا تبقى في النظارة “أكتر من يومين” والسبب؟ تجيب هيام بمصطلحاتٍ منتشرة في سوق مهنتها: “ضهري ماكن بالدولة”. تمارس هذه المومس “المحترفة” مهنة الدعارة منذ ستّ سنوات، ولا تفصح عن اسم (أسماء) “واسطتها” في الدولة أو القضاء، لكنّها تؤكّد أنّها ليست الوحيدة في هذا المجال “في متلي كتار، ما بيوقفونا، نحن منبسطن ومنجيب ليرات عالبلد”. بصراحةٍ تكشف هيام الستار عن الموارد المالية التي تُدخلها الدعارة إلى لبنان. هذه الأموال يمكن أن يكون مصدرها جيوب محلية، كالدعارة التي يدفع ثمنها لبنانيون مقيمون في البلاد. ويمكن أن تكون “خارجية”، أي خلال الموسم السياحي، وتدفّق السيّاح من جنسيات مختلفة، في هذا الموسم ينشط “قطاع الدعارة” وفق تعابير أبناء أقدم مهنة في التاريخ. وتجدر الإشارة إلى أن هذا القطاع “يزدهر” أيضاً عندما تُقام في البلاد مؤتمرات ضخمة. يؤكّد مطّلعون على “حال الدعارة” في لبنان، أنّها ليست موسميّة، بل إن جذوتها تبقى مشتعلةً مدى العام.
يرسل القوّاد زبونه إلى المومس على قاعدة «باعتلك خروف اسلخيه بالسعر»
لا يتوانى كمال عن ممارسة الدعارة من فترةٍ إلى أخرى. يفاجئك بلامبالاته، وهو يصرّح بأنه قُبض عليه عدة مرات وهو في أحضان المومس، وقد أُحيل على التحقيق، ويضيف إنه لا يُحال على القضاء، بل يُكتفى بإفادته. الرجل الثلاثيني “مستقوٍ بالقانون”! يلفت إلى أن النصوص القانونية تخلو من أية مادة تُعاقب من يدفع المال أو يقدّم أي شيءٍ عينيّ لممارسة الجنس. المحاكمة تسري فقط على المومس، وهذا ما يشجع كثيرين على معاودة التواصل مع أرباب البغاء. كمال يقول “في أسوأ الحالات أخلو إلى فتاةٍ أخرى”.
إن كانت عملية ممارسة الدعارة سهلة، فإن القبض على الشبكات التي تديرها، صعب. على مضض، يرشدنا كمال إلى القوّاد الذي يوفّر له فتيات الهوى. وعلى مضضٍ، يتحدث القوّاد عن وسائل العمل الجديدة من دون أن يقدّم أية إيضاحات. جلّ ما تستطيع أخذه منه بعض النظرات المرتبكة، معلومات تفيد أن بيوت الدعارة في تناقص. الخبر لا يدعو إلى التفاؤل. فانخفاض عدد بيوت الدعارة، هو نتيجة لانتقال شبكات الدعارة للعمل في “مكاتب” متنقّلة، حيث يصعب تعقّب خيوط الشبكة وقطعها. حالياً، يتواصل القوّاد مع فتيات الهوى اللواتي يعملن بإمرته عبر الهاتف. أمّا مكان إقامتهن؟ فهي شاليهات تنتشر على الخط البحري، أو ربما غرف في فنادق، أو بيوت صغيرة مؤقتة. لا يُمارس الجنس دائماً في مساكن المومسات. قد يُحدّد المكان وينسّق الموعد بين المومس والزبون عبر الهاتف. يرسل القوّاد زبونه إلى المومس على قاعدة “باعتلك خروف اسلخيه بالسعر”.
حين يكون الزبون من الأثرياء والنافذين في المؤسسات الرسميّة والخاصة، تتوجّه المومس وحدها أو مع مومسٍ أخرى، إلى غرفة الزبون في الفندق الفخم، أو إلى شقته المخصصة “للمزاج”، على قاعدة “ظبطيلو وضعه ما بدنا نخسره، بيخدمنا”. ينتشي القوّاد حين يتحدّث عن صعوبة القبض على مومساته. بالنسبة إليه، اللعبة مع الأجهزة الأمنيّة، تشبه لعبة قطٍّ بطيء يتعقّب فأراً سريعاً. لكن نشوة القوّاد، قد تبطلها بعض الأساليب التي تستعملها الجهات الأمنيّة للقبض على أعضاء شبكات الدعارة “متلبّسين بالجرم المشهود”.
خلال بعض عمليات التعقّب، تُفاجأ المومس بأن الرجل دخل معها إلى حجرة النوم، لا يريد جسدها عارياً، بل يكبّل يديها ويقبض عليها، وتكتشف أنه عنصر أمني. في هذا السياق، يلعب الأمنيون لعبةً صعبة، تحتاج إلى فكّ رموزٍ، وكشف كلمات سر يستعملها ممتهنو الدعارة في ما بينهم. من البديهي أن تستخدم الجهات المعنيّة أي معلومةٍ ترد إليها، ولو كانت عن طريق فاعل خير يتصل عبر الهاتف، أو يكتب رسالةً تحال على “مكتب حماية الآداب”. تكمن صعوبة التعقّب في كلمات السر التي يحتاج كشفها، إلى التعرّف أولاً إلى زبائن الشبكة، ومن ثم الاستحصال على كلمة السر “أنا باعتني فلان” مثلاً، والقبض على المومس. لكن الصعوبة تتجلّى أكثر، في الدعارة التي تُمارَس مع القاصرين، إذ إن وسيلة التأكّد من “أمانة” الزبون، هي سرده للرقم التسلسلي المتّفق عليه مع القوّاد. هكذا تتوازى صعوبة العمل بالرقم التسلسلي مع عقوبة تشغيل القاصرين بالدعارة. إذ تنص المادة 510 من قانون العقوبات (في الفحشاء) بأن يعاقب أي شخص يرتكب بقاصر يراوح عمره (ها) بين 15 و18 عاماً، فعلاً منافياً للحشمة أو يحمله على ارتكابه، بالأشغال الشاقة مدّة لا تزيد على عشر سنوات. أمّا في ما يتعلق بممارسة الدعارة مع الأجنبيات، المنتشرات في مرابع ليلية، فتنظّم محاضر بحقهن، ويرحّلن، بعدما يتجاوزن عملهن كفنانات إلى الدعارة غير المنظورة. يحصل ذلك بعد أن تسبق شرطة الآداب، أجهزة الإنذار الموجودة في المرابع الليلية المخالفة، وتدخل حجراتها السرية لمنع أعمال الدعارة.


توقيفات وإحصاءات

يعرض قائد “مكتب حماية الآداب” الرائد إيلي أسمر (الصورة) آخر الإحصاءات المتعلقة بشبكات الدعارة، على الشكل الآتي: في شهر نيسان قبض عناصر المكتب على 90 مومساً، وفي أيّار وحزيران قُبض على 62، وفي تموز زارت المكتب 59 مومساً، و69 في آب. يشير الأسمر إلى أن المكتب “يبذل مجهوداً كبيراً يفوق إمكاناته الموجودة”، ويردّ السبب إلى مشكلة نقص العديد الذي تعانيه المؤسسة الأمنيّة عموماً، لكنّه يؤكد في الوقت نفسه “توافر المساندة عندما نطلبها، من قوى الأمن الداخلي والشرطة القضائية”.
وعن الدعارة التي تشغّل افتراضياً، عبر موقع الفايسبوك أو الرسائل القصيرة، يؤكد أسمر ندرة هذا النوع من الدعارة، مشيراً إلى التعاون مع “مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وحماية الملكيّة الفكرية” التابع للشرطة القضائيّة لتعقّب هذه الشبكات. يؤكد أسمر على أهمية تعاون المواطنين مع أفراده، وذلك عبر التبليغ عمّا يجري في محيطهم من رذائل. كذلك يشير أسمر إلى أن 35% من الموقوفين بتهمة ممارسة الدعارة يتعاطون المخدّرات.