لا تزال تقارير الخبراء تنجَز بشأن مدينة بابل الأثرية، التي استعملت كقاعدةً عسكرية أميركية. لكن، يحاول أهل الاختصاص التغاضي عن مشروع المنتجع السياحي الذي أنجزته محافظة بابل في القصر الرئاسي داخل الموقع
بابل ــ كريم القاسمي
في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ الرئيس السابق صدام حسين بتنفيذ عملية ترميم وإعادة بناء واسعة لآثار مدينة بابل، بهدف تخليد اسمه في مصاف ملوك بابل التاريخية مثل حمورابي ونبوخذنصّر. هذه التعديلات أدت إلى تصنيف مدينة بابل «موقعاً أثرياً مزورة أجزاؤه»، وخاصة أن الرئيس السابق بنى قصراً خاصاً به على تلّ عال أُنشئ وسط المدينة الأثرية. فكرة القصر كانت تستند إلى تصميم يجعله يشبه جنائن بابل المعلقة، إلا أن الفكرة أخفقت رغم إعلان إجراء مسابقة دولية لإيصال الماء بدون استخدام المضخات الحديثة إلى الأشجار المغروسة على التل الذي أُنشئ القصر فوقه. فشلت الفكرة، وازداد التزوير التاريخي على الموقع الأثري، لكن القصر الرئاسي الفخم أُنجز وأُنشئت له ملحقات خدمية على ضفة نهر الفرات.
في سنة 2006، وبعد انسحاب القوات الأميركية من الموقع الأثري (حيث خلّفت أضراراً واسعة على الموقع الأثري)، قررت الإدارة المحلية في محافظة بابل أن تحوّل القصر الرئاسي القديم إلى منتجع سياحي لاستقبال الوفود الرسمية وتأجير غرفه للعرائس.
مديرة آثار بابل د. مريم عمران عارضت بشدة مشروع المنتجع السياحي، ولا سيما أنه نُفّذ وسط المدينة الأثرية، ما جعله معرقلاً أمام تسجيلها على قائمة التراث العالمي، وخاصة أن الدولة العراقية كانت قد حاولت سنة 2003 إدراج الموقع على لائحة التراث العالمي لحمايته من التجاوزات، لكن منظمة اليونسكو لم تُقرّ التسمية وبقي الملف قيد الدرس. وأكدت الدكتورة عمران أن إنشاء المجمّع السياحي أثّر على عمليات جرد الأضرار وتوثيقها بسبب تحويلها إلى قاعدة عسكرية لقوات الاحتلال الأميركية عام 2003. لكن لم تجدِ تلك الشكاوى نفعاً، وأُنجز المشروع الذي كلف ميزانية المحافظة أكثر من مليوني دولار.
وزير السياحة والآثار، قحطان الجبوري، أكد «أن المنتجع السياحي يمثل تجاوزاً على آثار بابل ويُفقد المكان هويته التاريخية وسيمنع تسجيله على قائمة التراث».
مبررات افتتاح المنتجع السياحي في هذا المكان التاريخي تعود إلى الرغبة في تحقيق بعض الإيرادات المالية وإيجاد مكان لاستقبال الوفود الرسمية بحسب المهندس محمد المسعودي رئيس مجلس المحافظة السابق، أي الجهة التي قررت افتتاح المنتجع. ويقول: «الظروف المالية الصعبة التي مرت بالمحافظة في ظل ضعف الميزانية المخصصة لها والحاجات الإنسانية الكثيرة لشريحة الفقراء، ولا سيما المرضى، دفعت مجلس المحافظة إلى البحث عن مصادر لتمويل نفقات علاج المرضى ومساعدة الحالات الإنسانية، حيث يجري استحصال بعض الأموال من إيجار الغرف الرئاسية في المنتجع، وخاصة للعرائس الجدد الذين يمضون لياليهم الأولى هناك لقاء خمسين دولاراً لليوم الواحد، إضافة إلى سبب أساسي هو عدم وجود أي فندق في المحافظة يمكن استقبال الوفود الرسمية فيه بعدما استولى الأميركيون على فندق بابل لاستخدامه مقراً للقنصلية الأميركية في المحافظة.
إلا أن خبراء محليين يؤكدون أن الإيرادات المالية المتحققة لا تكاد تذكر، كذلك فإن مركز المحافظة شهد خلال السنتين الماضيتين افتتاح اثنين من الفنادق السياحية التي تصلح لاستقبال المسؤولين الذين يفدون إلى بابل.
من جانبه، دعا رئيس لجنة الثقافة في مجلس النواب مفيد الجزائري إلى عدم الاستعجال في تحقيق واردات سريعة على حساب المدينة التاريخية، مشدداً على أهمية الحفاظ على الآثار التي قال إنها ستوفر موارد مالية كبيرة لبابل في المستقبل إذا حُميت من التجاوزات.
هذه الدعوات تصطدم برفض مجلس المحافظة. ويشير نعمة البكري عضو مجلس المحافظة إلى أن مبالغ طائلة اقتُطعت من ميزانية المحافظة، التي تعاني نقصاً كبيراً في الخدمات، لصرفها على إعادة تأهيل المنتجع. حجة يأتي الرد عليها من وزير السياحة والآثار «المنتجع مبنيّ في موقع أثري، لذا فهو مخالف للقوانين ويمثّل تجاوزاً على الآثار».
في ظل هذه الخلافات، يبقى الوضع على الموقع هو نفسه، ويبقى تسجيل الموقع على لائحة التراث العالمي معلقاً. وكانت وزارة السياحة والآثار قد بدأت الشهر الماضي بتنظيم مؤتمرات في بغداد عن واقع الآثار ومستقبلها في العراق، حاولت من خلالها الحصول على مساعدات دولية في ترميم متحف بغداد وتأهيل المواقع الأثرية، التي تترأس بابل لائحتها. وكانت الخارجية الأميركية قد أعلنت تخصيصها مبلغ 700 ألف دولار لبابل، وهي لا تكفي لتأهيل المدينة الأثرية.
في غضون ذلك، لا تزال أربع دوائر حكومية تتنازع ملكية المنتجع السياحي، هي: ديوان المحافظة، هيئة السياحة، دائرة الآثار ومجلس المحافظة. وتدّعي كل من هذه الجهات عائدية المنتجع لها، ويحتفظ كل منها بملفات ضخمة لإثبات ذلك. ويبدو أن النزاع سيطول ما لم تتدخل رئاسة الوزراء لحسم الخلاف وإيجاد حل للمنتجع الذي اقترح بعض الخبراء تحويله إلى متحف للآثار البابلية، وهي الفكرة التي لم تعد تلقى رواجاً بعد إعلان تخصيص أكثر من مئة وخمسين ألف دولار لتأهيل المتحف البابلي الذي يؤمل افتتاحه قبل نهاية السنة الجارية.