حسان الزيناتفاق الطائف أيضاً، عند اللبنانيين، شأن ميتافيزيقي، ولكل مذهب علاقة خاصة به تشبه علاقته بإلهه أو بكتابه المقدّس وآلية تفكيره ومصادر ثقافته، كأن اللبنانيين لم يتّفقوا عليه. هكذا، يمكن اللبنانيّين على أنواعهم أن يناموا مطمئنين إلى أنهم قد ضمّوا، بنجاح، ما يسمّونه اتفاق الطائف، كلُّ إلى دينه ومذهبه وطريقته في التعامل مع الآلهة والشياطين... ومع تقاليد قراءته الدينية، من دون أن يحوّلوا الطائف مقدّساً... وموحِّداً.
جولة على طرائق «فهم» كل مذهب للطائف وعلاقته به توضح القول. وبما أننا نتحدث عن الطائف، فلنبدأ مع السنيّة السياسية. هذه تتعامل مع الطائف كما تتعامل مع السُنّة النبوية، تعود إليه دائماً، أو تطالب بالعودة إليه والالتزام به بحرفيته، أو بالأحرى بحرفية ما طُبّق خلال المرحلة السابقة، الأولى. تماماً، مثلما تدعو إلى اتّباع المرحلة الأولى من الإسلام، نظراً إلى ما في ذلك من تأمين لمصالحها وحماية لدورها المركزي والرئيسي.
المحطة الثانية في الجولة عند الشيعية السياسية. فعلاقة هذه بالطائف تُضمر الخروجَ من التقيّة والقواعد التي أُرسيت في المرحلة الأولى من الشراكة بقيادة سُنيّة، إلى شراكة بقيادتها هي، أو على الأقل شراكة «تعطيلية» تجعلها صاحبة القرار، أو في الحد الأدنى، تجعلها جزءاً مقرراً. وهذا يخفي نزوعاً تاريخياً لاسترجاع «الحق» في الإمامة والولاية، يعتقد الشيعة أن السنّة سطوا عليه منذ أُبعد الإمام علي بن أبي طالب عن خلافة النبي محمد. وربما، حان وقته الآن، مع صعود إيران إقليمياً ونووياً، ومع استمرار المقاومة في لبنان بعد تحرير الجنوب من الاحتلال، ثم الصمود في مواجهة العدوان الإسرائيلي في تموز 2006، ومع سقوط نظام صدام حسين «السنّي» وتقدم الشيعة هناك نحو السلطة والحكم. فالعراق، في الاعتقاد الشيعي، مكان من مسرح الصراع التاريخي، وهناك كربلاء.
المحطة الثالثة في الجولة الميتافيزيقية الطائفية عند الدرزية السياسية. علاقة هذه بالطائف باطنية قلقة، وبقدر ما تصرّح بأنها أهل التوحيد بالطائف، تَستر موقفاً متململاً من النظام الذي أنتجه تطبيق الطائف في الفترة السابقة. وفيما لا تحصل الدرزية السياسية على «حقوق» من تدّعي أنها تمثّل (في رئاسة مجلس الشيوخ كموقع قيادي رابع في النظام اللبناني) تسعى إلى توفير الحماية من المحيط ضمن النظام الإقليمي بحسب التوازنات في المنطقة، مع الاحتفاظ بالكانتون والقدرة القتالية على المواجهة وخوض الحروب.
رابعاً، عند المارونية السياسية. وهذه منذ اللحظة الأولى من الطائف يتنازعها مفهومان وتيّاران؛ واحد كنسي وآخر علماني. الأول يعتقد بأنه يُمسك بمفتاح الجنة (الرئاسة الأولى وقيادة التمثيل المسيحي) من خلال العلاقة الممتازة بالنظامين العربي والعالمي. لذا، تراه يتوافق مع القراءة السنيّة السياسية للطائف. فذلك، ولا سيما بعد الخروج السوري من لبنان، يحفظ له الدور بالتعاون مع السنيّة السياسية ممثّلة للنظام العربي. فالتيار الماروني الكنسي والسنيّة السياسية، في اعتقاد ذاك التيار، هما طرفا الصيغة اللبنانية، والآخرون، مسلمين ومسيحيين، ملحقون. مفهوم يحيل إلى العلاقات القديمة بين الدينين وسلطتيهما منذ الصدام الأول وما نتج منه من تفاهمات سياسية وتجارية... وأحياناً حروب غالباً ما أدّت إلى هزيمة المسلمين، سواء أكان في أرضهم أم في بلدان الفتوحات. وفي هذا السياق يمكن تفسير العلاقة «الأبوية» بين الكنيسة والميليشيات المسيحية. فهذه الميليشيات مقاتلو الكنيسة والحروب الصليبية.
أما المفهوم المسيحي الثاني، أي العلماني، فينظر إلى الطائف من رؤيته إلى السلطة الدينية، أي بين الرغبة في تحييدها والنزوع إلى التمرد عليها، مع دعوة إلى إعلاء الإيمان والدين، فقط للتحرر سياسياً وناسوتياً من السلطة الدينية. وهذا التيار بدأ مع ولادة الطائف، ومستمر الآن في التعامل معه بالروحية التي تعدّه أمراً واقعاً يجب «قصقصته» وعجنه وفق المصلحة المذهبية، وصولاً إلى تفريغه وإقصائه والمجاهرة مجدداً بالكفر به.
المحطة الخامسة عند الأرثوذكسية السياسية غير المبلورة في مؤسسة حزبية أو حالة أيديولوجية، إلا أن لهذه المدرسة نظرة تحتمل بعض التنوع، بحسب الجهة السياسية والأيديولوجية وعلاقاتها ومصالحها. فالأرثوذكسية التي لم تفز ببلد أو بجزء من دولة وشراكة في نظام في المشرق عقب انهيار الدولة العثمانية ثم ولادة أنظمة المنطقة، ومنها لبنان، ينشط ضمنها توجهٌ سياسي مذهبيٌ ينظر إلى الطائف باعتباره العشاء الأخير، وفرصة لاسترداد ما سُلب تاريخياً، انطلاقاً من أن الارثوذكسية هي الدين الأولي، والأرثوذكس هم الامتداد الأول للدين. وفي حقيقة الأمر، هذا التوجه يسعى إلى الفوز بحصة في النظام، وهو بدأ مع الطائف، إلا أنه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومع حركة 14آذار ارتبك، ولا سيما مع نهوض توجه مختلف ضمن هذه البيئة يرى أن الأرثوذكسي، من موقع وطني، يمكن أن يؤدي دور الجسر بين المذاهب المختلفة. لكنّ اغتيال سمير قصير وجورج حاوي، اللذين يعبّران سياسياً عن هذا التوجّه، رفع أسهم التوجّه المذهبي المؤمن بالتعهدات لا بالجسور.
للتذكير، اتفاق الطائف يتحدّث عن تأليف لجنة وطنية لإلغاء الطائفيّة السياسية، ولعله بات بحاجة إلى لجنة وطنية لتفسيره.