عبد الأمير الركابي * يتهيأ وفد من الوطنيين العراقيين للسفر من العراق، قاصداً سوريا والأردن وبيروت، وربما القاهرة. الوفد يجول للاتصال بقوى المعارضة في الخارج، وهو جزء من تحرك يهدف لإقامة مؤتمر أول تمهيدي للمعارضة في داخل العراق، يضم قوى من خارج العملية السياسية. والمسعى الذي يندرج ضمنه هذا التحرك يأتي في إطار أوسع تنتظمها «المبادرة الوطنية للمصالحة والتحرير»، أعلن عنها منذ الشهر الثالث من السنة الحالية، أثناء الزيارة التي قام بها وفد «التيار الوطني الديموقراطي» إلى بغداد، ولقائه المالكي، وعقده مؤتمراً صحافياً في العاصمة العراقية أطلق خلاله الدعوة إلى قوى المعارضة للعودة والعمل في الداخل.
وكانت الزيارة قد جرت بعد قرابة ستة أشهر من النقاشات في الخارج، انتهت إلى موافقة المالكي على ما اقترحه «التيار الوطني الديموقراطي»، والمتمثل في قبول الحكومة مبدأ عودة المعارضة للعمل داخل العراق، خارج العملية السياسية، ومن دون الانخراط فيها، ولمعارضتها. وقد أعلن وفد «التيار الوطني الديموقراطي» من بغداد رغبته في إحداث تحول ينتقل بالبلاد من «العملية السياسية الأميركية» بمضامينها الطائفية والمحاصصاتية، وعملها على إنشاء الفيدراليات التقسيمية، إلى إحياء الثوابت الوطنية، وإقامة دولة مركزية ديموقراطية، وتحرير البلاد من الاحتلال. وقد جوبه الموقف المذكور بهجوم كاسح شنته المعارضة في الخارج والقوى الطائفية المنضوية في العملية السياسية معاً، مما أدى إلى تعثر مسار المبادرة المذكورة. أعقبت ذلك موجة من التفجيرات، تواصلت تحت استراتيجيا لا علاقة لها بأهداف المقاومة أو التحرير، يحركها بالدرجة الأولى دافع الخوف من تبلور مشروع وطني يخرج من داخل العملية السياسية، وعليها، تحت ضغط الواقع والتطورات. وبدل أن تتوافر النية والاستعداد لانتهاز الفرصة والسعي لتطوير مثل هذه الوجهة وتعزيزها، اتخذ موقف تحول إلى عقاب للمجتمع الذي كان قد قرر الانقلاب على التوجه الطائفي والجزئي، والذي أعلن صراحة قبل ذلك بقليل، خلال الانتخابات المحلية، نبذه الطائفية وتمسكه بالثوابت الوطنية. وبدل أن تُتخذ مبادرة شاملة من القوى التي ترفع شعارات الوطنية، فتقوم هذه بتأطير تلك الظاهرة ودفعها إلى الحد الأقصى، تركتها للمالكي وتيار «دولة القانون» الذي أحسن استغلال الموقف، وحصد عن طريق التناغم معه بالشعارات اللفظية المضادة للطائفية والمحاصصة والفيدراليات، انتصاراً انتخابياً. ولأن القوى المسماة معارضة، أو مناهضة للاحتلال، تعاني العقم وعدم الفعالية والسلبية وحتى الجزئية، فلقد ضاعت فرصة ثمينة، وتُرك المجال لظهور طور جديد من العنف المجاني، يحركه صراع إرادات من أجل الحكم وتحسين المواقع، لا الإضرار بالاحتلال وقواته.
هناك سعي لإقامة مؤتمر أوّلي للقوى المعارضة العاملة خارج العملية السياسية الأميركية
وتمثل الظاهرة الأخيرة جزءاً من مأزق المعارضة، أو ما يسمى بقوى مناهضة الاحتلال، بالترابط مع المصالح الإقليمية، التي تنكب منذ شهور على بلورة المشاريع، وتعقد الاتفاقات السرية، وتقيم علاقات بين أطرافها بناءً على ما يُعتقد أنه مصير العراق ومستقبله. وقد وصل الأمر لحد ظهور بدايات «حوار» بين «المجلس السياسي للمقاومة» والاحتلال، برعاية تركية وأصابع دول أخرى، وهو ما يبدو من قبيل البداية التي تهدف لتأسيس ثنائية طائفية، شيعية وسنية، ذات صلة بالولايات المتحدة التي تعول عليها بحيث تتوافر لها القدرة على إدارة الواقع والتحكم بمصيره. وبدل خطوات تتخذها القوى العراقية كي تدفع الطائفية إلى الخلف، أصبحنا الآن أمام احتمالات تكريس تلك الثنائية الجهنمية، التي توطد ليس فقط التحكم الأميركي بالواقع العراقي، بل احتمالات العودة للتلاعب به ودفعه إلى التفجر وقت الحاجة. وهكذا أمكن إلى حد بعيد إحكام الطوق على أي مشروع من شأنه تركيز الجهد الوطني الشامل على مهمات إعادة اللحمة الوطنية، فيما شاعت أجواء الاضطراب الأمني والقتل الموجه ضد المدنيين بالذات، ما قد أعطى الأطراف الطائفية داخل «العملية السياسية الأميركية» القدرة على شن هجومها من الزاوية التي تقف فيها، فكثفت الضغوط وأشاعت الأجواء التهويلية، وادعت التغيير، فوضعت على صدرها، زوراً، أسماءً جديدة، «وطنية» ومناهضة للطائفية.
الآن، ومع خروج الوفد الحالي، تستعيد «المبادرة الوطنية للمصالحة والتحرير» بعض القدرة على التحرك، ولو بنطاق الحد الأدنى. فأهمية الوفد لا تتمثل في النتائج المتوخاة منه، حيث التوقعات على هذا الصعيد ليست كبيرة، ولن تكون بالمستوى الذي يتناسب مع آفاق المبادرة والآمال المعقودة عليها، بل في إعادة طرح المبادرة في الحيز العام، وتجديد السعي إلى إقامة مؤتمر أولي للقوى المعارضة العاملة خارج «العملية السياسية الأميركية».
وتنص المبادرة التي كانت قد نشرت على نطاق إعلامي واسع، على النقاط الآتية:
1 ــــ يعتبر الموعد المحدد في الاتفاقية الأمنية التي عقدتها الحكومة مع الاحتلال لانسحاب القوات الأميركية من العراق، بمثابة جدولة للانسحاب تنتهي في عام 2011. ويعتبر هذا الموعد يوماً حاسماً في التاريخ الوطني العراقي، تلتقي فيه كل القوى العراقية الحية على تحقيق الانسحاب الكامل والتام للقوات الغازية. وتلتزم القوى الوطنية العراقية مجتمعة، في حال تلكؤ قوات الاحتلال، أو امتناعها عن الانسحاب التام، بإعلان المقاومة الشاملة، واستمرارها بكل الوسائل لحين خروج آخر جندي أميركي.
2 ــــ تعتبر الفترة الفاصلة من الآن حتى التاريخ المحدد أعلاه للانسحاب الأميركي التام، فترة انتقالية، تتمتع فيها القوى المعارضة والمناهضة للاحتلال، بحق العمل داخل العراق، وباستقلال تام عن العملية السياسية والحكومة الحالية.
3 ــــ تكلف لجنة من المعارضة وقوى العملية السياسية بإعداد مسودة دستور للبلاد، يعين شكل النظام الذي يريده العراقيون للمستقبل وصيغته، ويمكن أن يتوافقوا عليه ويعتبروه مناسباً، ويؤمن لكل مكونات المجتمع الحرية والمشاركة الوطنية الفعالة.
4 ــــ عند الانتهاء من تحرير البلاد، سواء بخروج الاحتلال في الموعد المحدد في الاتفاقية الأمنية، أو بنتيجة المقاومة العراقية الوطنية الشاملة، يُعقد مؤتمر عام تناقش خلاله وتقر مسودة الدستور التي تهيّئها لجنة الإعداد الوطنية، ويجري استفتاء عام على الدستور وانتخابات وطنية عامة.
5 ــــ تلتزم كل الأطراف بمبادئ السلم والأمن العام، بتحريم كل أشكال العنف الموجه إلى المجتمع، وقبر كل أشكاله ومسبباته ومصادره. وتعمل القوى المعارضة في الداخل سلمياً، ولا يشمل ذلك الأعمال التي تستهدف قوات الاحتلال حصراً وتحديداً.
وفي البحث عن خلفية الأزمة التي انفجرت بين العراق وسوريا أخيراً وأساسها، يتبين لنا أن أصل كل التداعيات التي شهدناها أخيراً يكمن في موقف سوريا من مسألة «المصالحة الوطنية في العراق». فهي ترى أن دخول قوى بعينها إلى «العملية السياسية» أمر ضروري ويحقق الاستقرار للعراق، وهذا الموقف يصطدم بقوة، حتى لو أيده الأميركان وبحثوه مع سوريا، مع مواقف القوى المتنفذة في العراق وتصوراتها، الأمر الذي أتيح لسوريا اختباره ورؤية تداعياته أخيراً. ومن الأفضل على ما نظن أن يدرس المسؤولون السوريون المبادرة تلك، قبل أن يمارسوا دورهم في إقناع المعنيين على أرضهم بمدى اتفاقه، لا بل تطابقه مع ما يعزز هدف الانتقال بالعراق من «العملية السياسية الأميركية» إلى «العملية السياسية الوطنية العراقية».
* كاتب عراقي