طرحت خلال الآونة الاخيرة أسئلة مقلقة بشأن احتمال أن تكون إسرائيل قد تمكّنت من التجسّس على مؤسسات الدولة من خلال محطّة الباروك للإنترنت. بانتظار حسم التحقيقات هذه المسألة، تبحث «الأخبار» في تحديث قوانين مكافحة التجسّس
رلى عاصي
إن قضية محطة الباروك تمثّل استخداماً غير مشروع للإنترنت بما يعدّ نشاطاً غير قانوني وهدراً للمال العام. إلا أن خطورة الأمر تكمن في ما يتجاوز خزينة الدولة إلى أمنها. فمنذ اللحظة الأولى، ارتبط ملف القضيّة بإسرائيل، إن على صعيد المعدّات والأجهزة المستعملة أو على صعيد الأشخاص والشركات الذين جرى التعامل والتعاقد معهم. وبعيداً عن التسويف السياسي الذي أثبت عدم جدواه، لا بد من التطرّق إلى البحث في موقف القانون اللبناني وتحديد التوصيف القانوني لهذه الواقعة.
يندرج هذا الفعل في إطار «الجرائم الواقعة على أمن الدولة»، وتحديدًا أمنها الخارجي. ومن هذه الجرائم، كما حدّدها قانون العقوبات اللبناني، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، «الخيانة»، «التجسّس» و«الصّلات غير المشروعة بالعدو». للوهلة الأولى، يتبيّن أن النشاط الذي ينطوي عليه ملف محطة الباروك يدخل في إطار الصّلات غير المشروعة بالعدو. حيث جاء في الفقرة الأولى من المادة 285 من قانون العقوبات اللبناني (الصادر بتاريخ 1/3/1943)، أنّه «يعاقب بالحبس سنة على الأقل وبغرامة لا تنقص عن 200 ألف ل.ل. كل لبناني وكل شخص ساكن لبنان أقدم أو حاول أن يقدم مباشرة أو بواسطة شخص مستعار على صفقة تجارية أو أي صفقة شراء أو بيع أو مقايضة مع أحد رعايا العدو أو مع شخص ساكن بلاد العدو». غير أنّه إذا ما أمعنّا البحث والتدقيق، اتضّح أن الأمر هو من الخطورة بما يتعدّى ذلك التوصيف. فإذا ما صحّت المعلومات التي أوردتها بعض وسائل الإعلام عن اشتراك بعض الدوائر الرسميّة اللبنانية، عدا عن بعض السياسيين والعسكريين، في خدمة الإنترنت التي توفّرها محطة الباروك، تكون إسرائيل قد تمكّنت من اختراق المواقع الإلكترونيّة والمعلومات السريّة لهذه الجهات، ومن رصد البريد الإلكتروني والمراسلات العائدة للمستخدمين المشتركين. وبالتالي، لم يعد الأمر يقتصر على صلات «تجارية» غير مشروعة بالعدو، بل تعدّاه إلى التجسّس. وهنا بيت القصيد. بالعودة إلى قانون العقوبات، والمواد منه المتعلّقة بالتجسّس، وجدنا أن الجرم يقع في حال أحدهم «دخل أو حاول الدخول إلى مكان محظور، قصد الحصول على أشياء أو وثائق أو معلومات يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة» (المادة 281)، أو «سرق أشياء أو وثائق أو معلومات كالتي ذكرت في المادة السابقة» (المادة 282)، أو «كان في حيازته بعض الوثائق أو المعلومات كالتي ذكرت في المادة 281، فأبلغه أو أفشاه دون سبب مشروع» (المادة 283).
سارعت معظم الدول الغربية إلى تعديل قوانينها المتعلّقة بالتجسّس، تزامناً مع فورة الإنترنت
أي يستوجب قانون العقوبات اللبناني لقيام جرم التجسّس، وبالتالي معاقبته، الحصول على معلومات سرية أمنية، إما سابقاً، أي حيازتها، وإفشاءها، أو لاحقاً كسرقتها أو الدخول إلى مكان محظور للاستحصال عليها. وهنا يكمن اللبس. ماذا لو تمكّن من الحصول على هذه المعلومات دونما الحاجة إلى دخول «مكان محظور»، أو سرقتها أو حيازتها والإبلاغ عنها؟ ماذا بالنسبة إلى من سهّل للعدو وسائل الحصول، بنفسه، على معلومات أمنية يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة، ووفّر له سبل الدخول بنفسه إلى المكان المحظور (أو المواقع الإلكترونية المحظورة) بأية طريقة من الطرق، كإنشاء محطات تزويد الإنترنت؟
لا شك في أنّنا في هذه الحالة نكون قد خرجنا عن حرفية النص القانوني وعن صراحته في تحديد أركان جريمة التجسّس، ويكون القانون بالتالي قد أغفل بحث هذا الاحتمال. وإذا ما التزمنا بمبدأ «شرعية» (أو قانونية) الجرائم والجزاءات»، الذي ضمنه الدستور (المادة 8) وقانون العقوبات (المواد 1، 6 و12)، حيث لا جريمة ولا عقاب من دون نص، بقي هذا الفعل خارج إطار التجريم والجزاء، وهو بالطبع ما لا يتوافق مع منطق الأمور ولا روح القانون. اللّهم إلا إذا أوّلنا النص واعتدنا بالعلّة أو الحكمة من التشريع. ولكن حتّى في هذه الحالة، لا تنتفي الحاجة الملحّة إلى تعديل النصوص وتحديثها، أقلّه تلك المتعلّقة بأمن الدولة وسلامتها، بما يتناسب مع متطلّبات التقدّم العلمي والتكنولوجي وتطوّر وسائل الاتصال والمراسلة. وهذا الأمر ليس بجديد، حيث سارعت معظم الدول الغربية منذ مطلع التسعينيات إلى تعديل قوانينها، ولا سيما تلك المتعلّقة بالتجسّس والدفاع عن أمن الدولة، تزامناً مع فورة الإنترنت والتطور السريع في عالم الاتصالات. ففي فرنسا مثلاً، عدّل الكتاب الرابع من قانون العقوبات المتعلّق بالجرائم ضد الأمة، الدولة والسلامة العامة، بموجب القانون 913ـــــ93 الصادر في تموز 1993، الذي أصبح ساري المفعول منذ آذار 1994. وفي ما خصّ التجسّس، نصّت المادة 411 الفقرة السادسة من قانون العقوبات الفرنسي على معاقبة كل فعل تسليم أو إتاحة حصول rendre accessibles)) أي قوّة أجنبية، أو مؤسسة أو منظمة أجنبية أو خاضعة لسلطة أجنبية أو أحد عملائها، معلومات، أشياء، وثائق، معطيات رقمية/ إلكترونية données informatisées)) أو ملفات يكون من شأن استعمالها أو الإفصاح عنها أن يمثّل اعتداءً على المصالح الأساسية للأمة.
وعلى غرار القوانين الحديثة، لا بد للقانون اللبناني من أن يلحظ، إضافة إلى حالات التجسّس المذكورة، فعل:
1ـــــ كل من حصل بأية وسيلة غير مشروعة على أشياء أو وثائق أو معلومات (رقمية وما عداها) أو خرائط أو تصميمات أو صور أو ملفات أو غيرها من الأشياء التي بحكم طبيعتها ومضمونها يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة.
2ـــــ كل من نظّم أو استعمل أية وسيلة من وسائل التراسل أو الاتصال بقصد الحصول على أيّ من الأشياء المذكورة أعلاه.
3ـــــ كل من سهّل، بأية صورة وعلى أي وجه وبأية وسيلة، حصول أية جهة معادية أو أجنبية على أيّ من الأشياء المذكورة أعلاه.
في ظل الحرب مع عدوّ لم ولن يوفّر السبل لإضعاف الدولة، مؤسساتها ومقاومتها، وتحقيق أي خرق أمني (كاختراق شبكات الاتصال الأرضية والمحمولة للبنانيين إلى ما أبعد من ذلك، كاختراق المواقع الأمنية لأجهزة الدولة)، فإن أضعف الإيمان إعادة النظر في النصوص بما لا يسوّل لبعض النفوس استغلال أي فراغ قانوني أمني وتجييره في ما يناقض مصلحة الوطن، فنكون نحن والزمان علينا.


ملفّ الباروك لا يشمل حالياً التجسّس

ادّعى مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية، القاضي رهيف رمضان، منذ نحو أسبوعين على ستة أشخاص في ملف محطة شبكة الإنترنت في الباروك وموظف في وزارة الاتصالات بجرائم مخالفة قانون مقاطعة إسرائيل وسرقة معدات من وزارة الاتصالات، سنداً إلى مواد جنائية وجنحية تتراوح عقوبتها بين السجن سنة وعشر سنوات. وأسند إلى كل من الموقوفين وليد ح. ونديم ح. وجيمس ف. «وكل من يظهره التحقيق أنهم في الأراضي اللبنانية وخارجها وبتاريخ لم يمرّ عليه الزمن، أقدموا على شراء معدات لشبكات إنترنت من صنع إسرائيلي مع علمهم بالأمر، وإدخالها بطريقة غير مشروعة وتركيبها في محطة الباروك وربطها بمحطات إرسال داخل أراضي العدو الإسرائيلي، وبيع خدمات تلك المحطات داخل لبنان». وفي الادّعاء أيضاً أن فادي ق. وهو موظف في وزارة الاتصالات «شارك بتاريخ 4/4/2009 مع آخرين في عمليات فك وضبط المعدات المذكورة بالاشتراك مع المدّعى عليه الفار محمد ح. على سرقة بعض تلك المعدات التي أودعت في مستودع وزارة الاتصالات بناءً على إشارة النيابة العامة المالية».