لا شيء أهم من باقة الورد في حياة حسن قانصوه. فابن الهرمل اختار العيش «ع الطبيعة» بين «حاكورة» الورد ومشتله المتنقّل بين أحياء المدينة النائية. أربعون عاماً أمضاها قانصوه في زراعة الشتول، ولا يزال مثابراً على مهنته رغم ضآلة مدخولها
الهرمل ــ رامي بليبل
ارتبطت طفولة حسن قانصوه (73 عاماً) بحاكورة الورد التي كان يلهو فيها أمام منزله المتواضع في مدينة الهرمل. كان قانصوه يرفض أيّ هدايا تقدم إليه من أهله وأقربائه إن لم تكن نوعاً من أنواع الورود، وخصوصاً الوردة التي «لا تزال بشلوشها». فذلك سيمنحه متعة زراعتها في «الحاكورة» التي هندسها بنفسه في بيت العائلة الواقع في حي البيادر الأكثر شعبية في الهرمل القديمة.
«ما أجمل أن ترى الورود تكبر أمام عينيك وتتفتح أطباقها الملونة ناثرة في الأجواء رائحة طيبة»، يقول قانصو المعروف بـ«أبو هشام» من دون أن يرفع عينيه عن «المسكبة» التي تنتظر أول جيل من نبات الحبق. يتنهّد تنهيدة طويلة ثم يضيف: «الحمد لله نحن محرومون من كل شي إلّا من الورد».
الجميع في الهرمل يعرف «أبو هشام»، ويعرف سيارته المرسيدس القديمة التي ما إن تطل من بعيد بهديرها المحبّب حتى ترى النسوة يتجمعن للقاء صاحبها. ينتظرنه أسبوعياً على الموعد ليشترين منه ما حملته سيارته من أصناف الورود المختلفة، وليسمعن منه جديد الأحاديث والنوادر، فهو صاحب نكتة وروح مرحة أيضاً. فكم من رواية نسجها من خياله واضعاً نفسه بطلاً لها، وكم من مرة خانته ذاكرته فيعمد إلى السكوت بحجة إضافة عنصر التشويق والإثارة بتركه ما بقي من القصة الملحمة إلى الأسبوع المقبل، كي لا يظهر أمام النسوة المتجمّعات بمظهر غير لائق.
سيارة المرسيدس الكحلية اللون هي الأحبّ إلى قلب أبو هشام إذ يقول: «عندي هالكركوبي أحسن من ميّة سيارة جديدة. هي سيارة الرزقة أتنقّل بها من مكان إلى آخر وفي كل الأحياء، وما بتذكّر يوم خذلتني أو قطعتني على الطريق». يملك حسن السيارة منذ أكثر من 10سنوات، يعدّل فيها ما يريد، وما يتناسب مع عمله.
الحمد لله نحن محرومون من كل شي إلّا من الورد

عندي هالكركوبي أحسن من ميّة سيارة جديدة فهي سيارة الرزقة
«آخر ابتكاراتي هي تحويل شبه السيارة إلى مزهرية متنقلة أو مشتل للحبايب»، يقول ضاحكاً. فأبو هشام يعمد إلى مدّ سقف خشبي على طول ظهر السيارة يضمّنه ما يسمح له المكان من أصناف الورود وأغراس الأشجار المختلفة. تراه، قبل أن ينطلق صباحاً إلى جولة جديدة في أحياء الهرمل والدساكر المحيطة، يعمل على صيانة الرف الخشبي ودعائمه، وإضافة الورود مكان التي بيعت في اليوم الماضي وترتيب الباقية بعدما بعثرتها «زبونات» الضيعة، «فكلّ منهن تريد أن تستكشف، سواء اشترت أو لم تشتر».
لم ينس أبو هشام البيئة يوماً حتى في عزّ انهماكه بهموم الحياة الصعبة عندما كان يعمل في دولة الكويت. لطالما دعا إلى المحافظة عليها بشتى الوسائل، لكن على طريقته. وقد رفع لافتتين في مقدمة السيارة ومؤخّرتها كتب عليهما باللون الأحمر القاني وبخط واضح وكبير: «ممنوع الصّيد». ولدى سؤالنا إيّاه عن سبب وضعه اللافتة أجابنا بعدما تململ في كرسيه طالباً الإنصات: «لكل مقام مقال، وللعبارة ثلاثة أهداف: الأول ممنوعٌ صيد الطيور والحيوانات فهي زينة الطبيعة الجميلة والعنصر المكمل للوحتها الدقيقة الصنع والفائقة الإبداع. فعندما تفقد الطبيعة عنصراً رئيسياً تتشوّه. أما الهدف الثاني فهو ممنوع صيد الورود الموجودة على ظهر السيارة تحت طائلة المسؤولية الشخصية، وهو هدف أخلاقي تارة، ورأفة بحالي لجهة عدم السرقة تارة أخرى، وقد نجحت هذه الفكرة وأدت المرجوّ منها. ويبقى الهدف الثالث الذي أحتفظ به لنفسي حالياً، وحالما يتحقق أعلنه.
لا يرفض أبو هشام، أو كما ينادونه «المهندس»، مطلقاً أيّ طلب للمساعدة في أمور الزراعة ولوازمها، فتجده يصف الدواء الناجع لنموّ نبتة هنا، أو لقتل حشرة مضرّة هناك، أو تراه يزرع لسيدة شتلات اشترتها منه على خلفية «إنو إيدو خضرا، والوردة اللي بيزرعها ما بتموت». كذلك فإنه يدرّب مجموعات من السيدات على الزراعة والاهتمام بالنباتات والأشجار، واستثمار محصولها من أطباق الورود أو الثمار في توفير مونتهن من المشروبات الطبيعية، المحلية الصنع.
لا تقتصر إبداعات أبو هشام على الزراعة فقط، فهو خبير بكل أنواع المخللات، ولا سيما خلّ التفاح وماء الزهر أو الورد اللذين يصنعهما بيديه «على الأصول»، كما يقول متباهياً بجودة إنتاجه. كذلك لا يتوانى الرجل عن إعطاء الإرشادات والوصفات اللازمة لمريض استغاث به على قاعدة أنه «خبير بالحكمة العربية». وكم من حالة تغلّب عليها بخليط من الأعشاب التي يجمعها بنفسه من مشتله المتنوّع الأصناف مثل «قرطاسة، غاردينيا، تويا، باتوزة ، أوركاريا، تمر حنة، المجنونة، إضافة إلى الأصناف المعروفة كالجوري والزنبق والياسمين والسجادة، وغيرها الكثير حتى بلغ عدد الأصناف التي يهتم بها أكثر من 262 صنفاً مختلفاً.
يقول أبو هشام: «كل عارض صحّي له تحويجته الخاصة. لا أدّعي أنّني أفهم بالطب، لكنّ الخبرة العملية والاستمرارية علّمتني، والتجارب في السنوات العشر الأخيرة جعلتني أتقن معرفة ما هو علاج كل مرض عبر أصناف الزهور».
يبدو واثقاً من أنّ علاج الأمراض الغريبة «اللي بيطلعولنا ياها كل يوم مثل أنفلونزا الطيور، أنفلونزا الخنازير، جنون البقر وسعال السمك وغيرها من عجائب الأمراض، من الأرض والطبيعة». يقول: «لكل داء دواء، وأهلنا لم تكن لديهم مختبرات وتقنيات عندما كانوا يتغلّبون على الأمراض التي تصيبهم، وأنا أسعى للبحث عن هذه العلاجات رأفة بالفقراء والمعتّرين».
يُعرف أبو هشام في الهرمل أيضاً بـ«حسن زنار». ويعود لقب «زنار» إلى اعتماد والده، في لعبة كان يمارسها مع أترابه تقوم على المصارعة والمباطحة، على أسلوب لم يستخدمه أحد غيره، حيث كان يعمد إلى التمسك بزنّار الخصم بعد أول ثانية من بدء المباراة، ولا يتركه حتى يرديه أرضاً، ومنذ ذلك الوقت درج اللقب حتى بات لا يعرف إلّا به».
يعيش أبو هشام أيامه بهدوء شديد، فلا تعكّر صفوَ لياليه السياسة وزواريبها. همّه الوحيد أن يرى كل ما حوله مزداناً بالورود والرياحين، فهي العطاء دون منّة، والجمال دون غرور، يغرف من خيراتها الوفيرة، على أمل أن يتبعه الجميع، فمدرسة الطبيعة عِبَرٌ لا تنتهي.


ورود نادرة

كان أبو هشام سائق شاحنة تبريد ينقل بواسطتها الفاكهة والخضر من لبنان إلى دول الخليج. واللافت أنه كانت له محطة وقوف في كل دولة يمرّ فيها، حيث يتعرّف إلى نباتاتها وورودها. وكان يجلب معه عيّنات من تلك الشتول ليزرعها في أرضه، فيغني بها مجموعته التي باتت كبيرة ونادرة.