ضحى شمس«هياني انتي استفتاحيتي» يتوجه السائق الكهل إليك بهذه الجملة وابتسامة عريضة ما إن تدخل إلى سيارته في هذا الصباح. تبتسم له رداً على تحيته بأحسن منها قائلاً «صباح الخير». يدير إبرة الراديو على إحدى المحطات المحلية مسترشداً بصوت فيروز. ثم يقول لك «ما في أحلى من فيروز الصبح»، تبتسم له مرة أخرى. ما هي إلا دقيقة حتى يتوقف مسيرنا خلف صف طويل من السيارات يريد سلوك النفق تحت جسر البربير. الازدحام شديد، لكن السيارات تمشي ولو ببطء. تنظر إلى ساعتك مقدراً: زحمة اليوم من النوع الذي يستلزم عشرين دقيقة للوصول إلى المكتب. لا بأس. ما إن نخرج من النفق، حتى يعود السائق إلى التزمير تنبيهاً للركاب المحتملين على جانب الطريق. لكن أحداً لم يستجب له. أنا أيضاً، قلت في نفسي: عادة ما أفضّل أن أستقل الفان صباحاً. تحديداً الرقم أربعة، لأنه لا يحيد عن الخط. وبالتالي تستطيع التحكم تقريباً بوقت وصولك فلا تعلق بزحمات سير إضافية، فإلى الحمرا، تحديداً إلى الكونكورد، الطريق الأفضل والأقصر هو الخط الذي يسلكه الفان. أما السرفيس، فليس مضموناً هذه الأيام. فإن لم يوفق بركاب على الخط ذاته، فهو سيأخذ ركاباً متوجهين إلى أماكن بعيدة عن الخط، ما يعني أنه سيجبرك على «برمة العروس»، أي الطواف في الشوارع «خبط عشواء» مستهلكاً وقتاً ثميناً كلنا يحتاجه في الصباح للوصول على الوقت إلى العمل. لكن سماحة تعبير وجه السائق، جعلتني أغيّر رأيي. فقلت أستقل السرفيس في هذا الصباح.
«بيب بيب؟» يسأل زمور السائق الراكب المنتظر مع ولدين إلى جانب الطريق، يرفع الرجل كفاً علامة أن «شكراً لا نريد» ويواصل إدامة النظر إلى السيارات خلفنا، وتحديداً إلى الفان المقبل عليه. «عمرك ما تطلع» تقطع الجملة التي همس بها السائق الكهل، كلام فيروز التي كانت تغني ولا على بالها «تحت العريشة سوا قعدنا سوا وقلنا»، تتجاهل الجملة، وخاصة أنه بدا كمن يحدث نفسه. وأنت تقول في نفسك «عن جد حرام الشوفارية». تواصل النظر من النافذة ويواصل السائق «التزمير» للمشاة على الرصيف، مع أن السير كان يمشي على «قلبة الدولاب». أي أن المشاة كانوا يسبقونا. عند الإشارة، أطفأ الرجل المحرك، فانقطع صوت فيروز. يتغير شيء ما في جو السرفيس. ينظر إلي ثم يتنهد، وهو ينتظر أن يفتح الشرطي خطه، ثم يدير المحرك ويطلق زموره لشخص كان.. يعبر أمامنا الطريق إلى الاتجاه الآخر للسير!!
على تقاطع بشارة الخوري، وبدلاً من سلوك الطريق اليسار باتجاه الملا، طريق الخط، تابع السائق نزوله صوب البلد. استعذت بالله في سري، لكنني لم أفتح فمي، ملتقطة نظرة خاطفة في المرآة رمقني بها السائق ليفحص استعدادي لـ«برمة العروس»، كان تعبير نظرته تلك «شو بدي اعملك، بدنا ركاب». أخذت أصبّر نفسي: «معليش. حرام، لن تتأخري أكثر من ربع ساعة» ثم دعوت الله أن يوفقه على الأقل براكب، مراهنة على تقطيع الوقت بسرعة بالاستماع إلى الراديو الذي كان لا يزال يبث أغاني فيروز. «أحسبي حال بمشوار» قلت في نفسي. هكذا، برم الرجل حول ساحة الشهداء وسلك طريق.. بلدية بيروت، وهو على حاله: يزمر لكل ما أو من يمشي على رجلين، والجواب ذاته: لا ركاب. عزمت على أن أدفع له أجر راكبين بدلاً من راكب واحد إذا وصلت إلى وجهتي ولم يكن قد حظي بعد براكب إضافي. حرام. حسبت ما صرفه من بنزين، فيما كان يواصل دورانه في الشوارع، كالتائه، كالمقامر الذي خسر معظم ما لديه، لكنه «مجبر» على مواصلة اللعب إلى أن «يعوّض» ولو بضرب واحد شيئاً من خسارته. وبدلاً من اللف يميناً باتجاه شارع المصارف، ها هو يواصل ترحاله إلى الستاركو. «بيب بيب؟». لا أحد. بدا أن صبر السائق ينفد، يقفل زر الراديو كمن يقول له «سد بوزك». أحسست بالحاجة للتخفيف عنه، قلت له: «معقول ما في ركاب بالمرة اليوم الهيئة»! وإذ به يجيبني بكل «وضوح»: «الهيئة وجهك مش منيح عليي يا مدام». قالها بطبيعية من يقول: اليوم الطقس كارثة! لم أصدق أنه قالها بهذه الطريقة! صحيح أنه في نهاية الجملة ضحك، لكن ضحكته لم تعنِ أبداً أنه كان يضحك. بل كانت أشبه بضحكة صفراء يحاول فيها تمويه توتره حين كان يقول ما قال. كأنه لا يستطيع كتمان ما به لكنه لا يريد أن يعمل مشكلاً!
كنا قد أصبحنا نزلة جنبلاط، والسير باتجاه شارع بلس تقريباً متوقف. حاولت أن «أقطع» الجملة التي قالها، لكنها لم تتقطع معي. برمتها، قلبتها، أبداً. أما السائق فقد كان لا يزال مقطب الجبين. وإذ، وجدت نفسي فجأة أمسك بمقبض الباب، أفتحه، وأنا أقول للسائق الذي كان ينظر إليّ غير فاهم «بتعرف شو، خليني انزل هون من فضلك». «ما عطيتيني» يصيح بي من مكانه، فأجيبه من الشباك وقد أغلقت الباب خلفي، «وهلق؟ مين وجو نحس عليك؟ أنا ولا انت؟» ثم تابعت طريقي مشياً إلى المكتب، و«جوابه» كان يتناهى إلي بأوصاف لا تمت إلى عالم فيروز بأي صلة، من مكانه حيث كان عالقاً لا يزال في زحمة السير.