نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

قصة «تأجيل» (اقرأ تبديد) التصويت على تقرير المحقق الدولي ريتشارد غولدستون بخصوص العدوان على غزة، لا تمر. فهي تثير ردود أفعال متعاظمة. ولأن السلطة الفلسطينية لا تقوى على مواجهة الأمر، فقد اختارت الكذب. ولأن السلطة بيروقراطية وجديدة العهد بالخزعبلات، ولأنها تتعامل مع الموضوع الفلسطيني، الدامي لأصحابه والمُستقطب أضواء العالم بأسره، فهي تكذب بطريقة سيّئة، مفضوحة، فتزيد الطين بلة.
منذ أيام، قررت السلطة الرضوخ للضغط الأميركي. يقال إنه كان شديداً وابتزازياً، فلم يتناول تحميل السلطة مسؤولية إفشال مبادرة أوباما للسلام ـــــ وهي ضبابية أصلاً، ومتعثّرة تماماً بسبب التعنّت الإسرائيلي ـــــ فحسب، بل أيضاً قطع المساعدات المالية! وخلف واشنطن كانت تقف تل أبيب التي تريد «الزبدة وثمن الزبدة»، كما يقول المثل، أي تريد أن تعربد وألا يعترض معترض، وأن يستمر الرأي السائد، أو الرسمي منه على الأقل، في إحاطتها بأقصى احترام. وهكذا، طلبت السلطة من ممثّلها في اجتماع لجنة حقوق الإنسان في جنيف «الموافقة» على تأجيل التصويت على تقرير غولدستون إلى آذار/ مارس المقبل. وإزاء ذلك، أُحرجت الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، فاضطرتا ـــــ كما تدّعيان ـــــ إلى اتباع الموقف الفلسطيني. والنتيجة أن إسرائيل نالت هدية كبرى، هي إعفاؤها من مجابهة توصيف محدد لأفعالها في غزة مطلع العام الجاري ـــــ يقول إنها جرائم حرب و«ربما» جرائم ضد الإنسانية ـــــ بعدما كان من المؤكد أن معظم أعضاء اللجنة كانوا سيصوّتون لمصلحة التقرير، وتفتح بذلك الطريق أمام عرضه على مجلس الأمن، وإرساله إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
بدأ الكذب باكراً. محاولة تضليل إعلامية أولى بعد ساعات من الموقف المتخذ تقول إن سببه هو التقدير أن التصويت كان سيفشل. وفي رواية أخرى أن التأجيل إلى دورة آذار سيحقق الإجماع عليه. ثم تلى ذلك محاولة تضليلية أخرى، تقول «فليرسله غولدستون بنفسه إلى لاهاي»، مع أنّ هناك آليات وأصولاً كما تعرف السلطة، وإلا فالمصيبة أعظم. وأخيراً تسريبات تشير إلى رئيس الوزراء سلام فياض بأنه متخذ القرار غصباً عن أبو مازن، ثم تسريبات معاكسة تماماً... وتضارب في تحديد من منهما غاضب على الآخر بسبب هذا القرار السيّئ، (حتى زايد محمد دحلان على الاثنين في الغضب!). وأخيراً، صدرت أوامر بتأليف لجنة تحقيق لتحديد من اتخذ القرار ولماذا. أليست حلوة هذه؟!! لعلّهم سمعوا بأن اللجان هي مقابر الملفات، فأرادوا الاستفادة من القاعدة، أو من قاعدة ثانية هي التضحية بكبش فداء للفلفة الأمور، ولعلّهم قرروا تطيير رأس ممثّل فلسطين في الاجتماع.
المهم أن إسرائيل نالت ما أرادت، بل هي تهلل للنتيجة بمفعول رجعي: كان رفضنا الأصلي للتعاون مع لجنة غولدستون صائباً، بدليل تخلّي السلطة نفسها عن تقريره.
يذكّر هذا السياق بقصة أقدم، هي التقاضي بشأن الجدار الذي كانت تبنيه إسرائيل، والذي اكتمل. ماطلت السلطة حتى تقدمت إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، وكانت حجّتها أن الأصول معقدة. والأهم أنها بعد صدور القرار الاستشاري الذي يدين الجدار ويطلب هدمه وتعويض الفلسطينيين، لم تفعل حقيقة شيئاً لمتابعة التوصية في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبقي هذا السلوك لغزاً يحيّر مجموع المحامين والخبراء الذين انخرطوا في معركة الحصول على رأي المحكمة، ومعهم الجمعيات المعنية بفلسطين عبر العالم. ولتفسير هذا السلوك وقتها، ساد تقدير يغلّب اعتبارات الفوضى القائمة داخل السلطة، وضعف كفاءتها، وما شابه ذلك من مبررات تتعلق بالأداء. وساعد في إرساء الاضطراب في التأويل اختلاف فعلي بين الحادثتين، إذ رغم عدم الاستثمار اللاحق، فقرار إدانة الجدار اتخذ. وثمة اليوم من يريد أن يسخّف موضوع ما جرى في جنيف، فيرى أن السلطة الفلسطينية تخوض المعركة ضد حماس كأولوية، وترتكب «هفوة» اعتبار كل ما يتعلق بغزة يصبّ في نهاية المطاف لدى هذه، مع أن تقرير غولدستون لم يوفّر حماس في إداناته. وثمة من يرى أن الفارق يقع في الإخراج فحسب، وأن السلطة قد غيّرت فقط في سيناريو تعاطيها مع الإدانات الدولية الممكنة لإسرائيل، وأنها منذ معركة الجدار كانت متواطئة.
والأرجح أن الفارق بين اللحظتين موضوعي، يعبّر عن الاختلاف في الواقع السياسي. فقد تبدّد نهائياً الادّعاء أن ثمة حلاً في الأفق، (ولا تغيّر وعود الرئيس أوباما هذه الحقيقة التي تشي بها الوقائع المتينة على الأرض، والتي لا يخفيها المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم). وبات على السلطة أن تجد لنفسها دوراً ووظيفة خارج احتمال «الدولة الفلسطينية»، ولو الكاريكاتورية. أي إننا نشهد انتقال السلطة من ترؤس شكل منقوص ومتداع لهيكل كان يمكن، رغم كل شيء، تسميته «دولة»، إلى تبوّء موقع الوكالة المحلية عن إسرائيل، أو في أحسن الأحوال، التوسط بين الكتلة السكانية الفلسطينية والسلطة الإسرائيلية، أي تعميم الحالة الدحلانية على مجمل الموقف، وخصوصاً على جوهر الموقف.
لذا، فمن المرجّح أن تتكرر حالات تشبه ما جرى في جنيف، ولعله قد آن الأوان لتجاوز الدهشة نحو الخلاصات.