strong>قاسم عز الدين*ما فتئت صحيفة “الأخبار” الغرّاء تتحف قرّاءها بمقال أسبوعي للسيد ناهض حتر، اعتباراً لحقّّهم في الاطمئنان إلى أهلهم في الأردن الشقيق أوّلاً، ثم زيادة تفاؤلهم بنموّ تيار قيادي واسع في العراق المنكوب، إلى ما هنالك من عيون الكلام والتحليلات النيّرة في أزمة الرأسمالية العالمية والفكر النيوليبرالي وأحوال الأمّة. آخر العلم، صفحة كاملة («حزب الله، فشل الانتقال من فقه المقاومة إلى فقه التحرير»، («الأخبار»، 29/9/2009)) تضّمنت رداً على مقال شديد التهذيب والعقلانية كتبه سيف دعنا («الأخبار»، 22/9/2009) في نقد مقال ناهض حتر («الإسلام السياسي، الزواج بين النيوليبرالية والمذهبية، حزب الله نموذجاً»، («الأخبار»، 15/9/2009))، لكن شدة تهذيب سيف دعنا زادت السيد ناهض إمعاناً في التحريض على المقاومة، متخذاً من تصورات وهمية وقائع قابلة للتشهير، وإليك البيان:
1ــ أن مسلّمة استثمار حزب الله في تجارة صلاح عز الدين هي استنتاج مفرط بادعاء المعرفة مثل الاستنتاجات الأخرى. والحقيقة أن إحدى مؤسسات الحزب المالية اشتركت يوماً ما في قطاع محدّد لا لبس عليه من تجارة صلاح عزالدين. ثم تكررت العملية وتكررت أرباح الحزب إلى أن وقعت الواقعة وأُدرج الرأسمال الأول في عداد الخسائر الحسابية، لكن هذا الرأسمال ليس خسائر صافية. فلا داعي إذاً إلى ذرف دموع الحرص على أموال المقاومة ولا داعي إلى استثمار “مصيبة” اجتماعية في التحريض والتشهير. وليكن اتهام الحزب بالنيوليبرالية صريحاً مباشراً بسبب استثمار في التجارة عوضاً عن اعتماده على الاستثمار في الزراعة والصناعة. إنما هذا الأمر أشد تعقيداً من تركيب الجمل على الورق، وهو يمس أبعاداً خطيرة لا يجوز ليساري أن يطلقها دون دراية، منها حرص اليساري المسؤول على عدم تحوّل الحزب إلى رب عمل وعدم تحوّل الأجراء إلى رعايا. لذا يمكن أن يشجع الحزب رجال الأعمال والمتموّلين والعاملين والزارعين... على إنشاء تعاونيات ومشاريع إنتاجية، إنما لا يمكنه أن يتموّل “للاستقلال عن إيران” من الاستثمار في العمل المنتج ولأسباب اقتصادية بحتة. ويمكن الحزب كذلك المبادرة المحدودة إلى سبيل التشجيع والتجربة في البحث عن بدائل اقتصادية، لكنها والحالة هذه استثمار سياسي رمزي لا استثمار ماليّ. وقد بدأت فيه كوادر زراعية وحرفية من حزب الله أقامت صلات معرفية مع الحركة الزاباتية ودعاة الغذاء النظيف والزراعة العضوية... وفي هذا السياق يحاول كوادر الحزب المختصّون اكتساب معرفة بديلة وقد شاركوا في “منتدى بيروت العالمي للمقاومة والبدائل” ونقلوا تجاربهم، بينما رفضت القوى السياسية العربية واللبنانية “غير النيوليبرالية” مجرد البحث والاهتمام بالبدائل، لأنها تعرف مسبقاً “من التجربة التاريخية” ما يجب على حزب الله أن يقوم فيه.
وبيت القصيد أن تجارب البدائل في الاقتصاد الحقيقي ما زالت في كل مكان منحى بواكير واعدة في مسار المقاومة الاجتماعية، ولم تصبح بعد منهجاً اقتصادياً حقيقياً يمكن أن تهتدي فيه المقاومة في لبنان أو العراق وفلسطين. ففي فنزويلا حيث الثورة البوليفارية ونبض حركة مناهضة النيوليبرالية، ما زالت المافيا تحكم البلاد ليلاً بالاتفاق مع شافيز على حدود سلطة كل منهما (تحريم تهريب المخدرات مقابل السماح بتهريب البضائع). وما زالت البلاد تستورد كل احتياجاتها من الخارج وترتبط عملتها بالدولار. وما زالت شركات البيض تستولي على التجارة والاقتصاد. وما زال الفساد المالي في السلطة يزكم الأنوف. وفي الانتخابات الأخيرة صرخ المتظاهرون : “شافيز مئة في المئة، أما محيطه فصفر في المئة” احتجاجاً على الفساد السياسي ونهب الثروة العامة... إنما ما زالت سلطة شافيز معادية للنيوليبرالية، كما المقاومة في لبنان والعراق والمقاومات الاجتماعية في كل مكان. فالنيوليبرالية ليست “فيروساً” يمكن محاربته بـ“الجرثومة الثورية”. بل هي منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية واستراتيجية... كونية متداخلة ومتشابكة.
2ــ إن نقد حزب الله لعدم مجابهته النيوليبرالية (كما ينبغي) شيء، واتهامه بالنيوليبرالية شيء آخر. فهذا الشيء الآخر تحريض من موقع الضفة النيوليبرالية السياسية المعادية لمقاومة “السلام الإسرائيلي”. وهو ما نشهده في حملة منظّمة تقودها قوى في اليسار الأوروبي المتصهين وأطراف تتّخذ من “العلمانية” ديناً مطلقاً، وكذلك القشرة اليسارية المريضة في العالم العربي. وبهذا الصدد، كتب سمير أمين مقالة “الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية” إرضاءً لتلك القوى، إثر معركة طاحنة في “المنتدى العالمي للبدائل” حول التكامل مع المقاومة، وحزب الله تحديداً... والغريب أن سمير أمين، الذي يحلم بعودة “باندونغ” على ما فيه من قوى وطنية ضيقة معادية صراحةً للتحرر الاجتماعي، ينقلب رأساً على عقب في قراءة المقاومة الإسلامية بحجة عدم اهتمامها بالتحرر الاجتماعي. فالمسألة ليست بريئة كما يحاول ناهض استدرار التعاطف مع “حق المثقف في النقد”، بل هي خيار الموقع في ضفة المقاومة أم في الضفة المقابلة لها. فإذا كانت المقاومة في خدمة الإمبريالية، أي تزاوج بين المذهبية والنيوليبرالية (على قول السيد ناهض)، فينبغي محاربتها وبالسلاح إذا أمكن. أما إذا كانت تقاوم الإمبريالية، ولا تولي التحرر الاجتماعي اهتماماً لأسباب إيديولوجية أو سياسية أو عملية، فينبغي التكامل معها في الضفة الواحدة، والمحافظة على الاستقلالية وسلاح النقد في الوقت نفسه. وبناءً على ذلك، ردّ جورج لبيكا على مقولة سمير أمين رداً لاذعاً ساخراً، ورد جان بروكمان رداً مماثلاً، وقال ميغيل أوربانو: “حيث تكدّس الإمبريالية ترسانتها العسكرية تكون مقاومتها دفاعاً عن الإنسانية جمعاء”. وانتفض جان كاتالينوتو وأنجيلا مايسترو وجان سالم... ومفكّرون من أميركا الجنوبية واليسار الجدي، ما اضطر سمير أمين إلى إصدار المقولة باسمه الشخصي.
والحقيقة أن هذا الخلاف هو خلاف في العمق على جديّة اليسار ووظيفته في إعادة بناء نفسه نظرياً وعملياً، قبل أن يكون خلافاً على دعم المقاومة غير اليسارية. فما زال مبشّرو القرن التاسع عشر والمغرضون وأنصاف المثقفين والانتهازيون... يبرّرون وجودهم بالاختباء خلف ستارة التبشير، وتوزيع شهادات حسن السلوك، فيما يسعى الآخرون إلى تحمّل المسؤولية. وقد بدأوا بنقد فكرهم وتجاربهم ويسعون بتواضع شديد إلى بناء بدائل نظرية وعملية في ضفة المقاومة ـــــ المقاومات، وهدفهم تطوير مقاومة الضفة على ما فيها من تناقضات واختلافات. وفي هذا الشأن لدى المقاومة المسلّحة والمقاومة الاجتماعية والعولمة البديلة، حول تخلّف اليسار الفكري والعملي، قول كثير.
3 ــ يتوهم السيد ناهض أن لاهوت التحرير في أميركا الجنوبية “يستند إلى مسيحية كاثوليكية تقليدية، تنبذ التجارة والإثراء وتتضمن عناصر اشتراكية يمكن دمجها مع الرؤية اليسارية الحديثة... على عكس الإسلام الذي يشرعن الملكية الخاصة والتجارة والتربح ويقيّدها بالزكاة والعمل الخيري”. والعجب العجاب أنّ من يرطن باليسار يفسّر الدين بالدين ويفسّر المسائل الاجتماعية بالدين فوق الطين بلّة. وفي أي حال كل الأديان تتأسس على الأخلاق والعمل الخيري والتآخي بين أبناء الله، بما في ذلك دين القشرة اليسارية التي تتخيّل النيوليبرالية “فيروساً” وإثراءً وتربحاً وتجارة. إنما لم يدمج لاهوت التحرير ولم يخلط، فالقوى الاجتماعية والسياسية هي التي قاومت ودمجت وخلطت. وقد حضنها لاهوت التحرير لأسباب دينية في العمل الخيري والتآخي وتوزيع الحسنات. أما “المسيحية الكاثوليكية التقليدية” فكان لها، وما زال، شأن آخر هو شأن الكنيسة الكاثوليكية التقليدية منذ أن أصبحت سلطة بعدما بدأت مقاومة قبل ألفي سنة. وفي السياق يتضح أن ما يُقال ويُكتب عن الإسلام السياسي ولاهوت التحرير لا أرض له. فعلى الأرض لدينا ضفتان متقابلتان: في ضفة “يتآخى” مسلمون ومسيحيون ويساريون وعلمانيون... تحت جناح النيوليبرالية، ويتلاقى مسلمون ومسيحيون ويساريون وعلمانيون... تجاه عدو مشترك في الضفة المقابلة. ولا يتخلى أي منهم عن معتقداته أو رؤيته وثقافته ويعمل في بيئته الثقافية الطبيعية، كما تعمل المقاومة الاجتماعية في قطاعات منفصلة (زراعية، حرفية، بيئية، حقوق إنسانية...) لكنها متصلة في المسار العام لكامل حراك الضفة. وقد شهدنا كثيراً من اليساريين يتهمون قطاعات معينة بـ“الشعبوية” كما يتهمون حزب الله بالتعصب المذهبي، ويجدون دوماً ما يصطادونه في أدبيات هذا وممارسات ذاك. فبيئة حزب الله بيئة شيعية، كما أنّ بيئة الزراعة العضوية في الهند إثنية أو قبلية. ومن السذاجة التصوّر أن فاندانا شيفا لا تخاطب بيئتها الزراعية خطاباً إثنياً عصبوياً، أو أن الحركة الزاباتية لا تمجّد ثقافة بيئتها ولا تحقد على العرق الأبيض... لكن حزب الله مذهبي بحدود عصبية فاندانا وموراليس والمقاومة العراقية والفلسطينية والبوليفارية... وهي القوى التي تصنع تاريخ مناهضة

النيوليبراليّة ليست «فيروساً» يمكن محاربته بـ«الجرثومة الثورية»، بل منظومة كونية متداخلة ومتشابكة

النيوليبرالية، على الرغم من انطوائها على ثقافة بيئتها العصبية، بل بسبب انطوائها. فالانطواء في الطبيعة تعبير عن ضرورة حماية الذات في ظروف قاهرة. والظروف التي تقهر حركات المقاومة المحلية اليوم هي نتيجة ظروف كونية النيوليبرالية، بما في ذلك دول “المعسكر الاشتراكي” السابق ودول حركات التحرر الكبرى، وعلى رأسها الصين وفيتنام. وكذلك نتيجة اهتراء منظومة فكرية يسارية سلفية، ما زالت بقاياها تتوهم مواجهة النيوليبرالية مواجهة “الجرثومة الثورية” مقابل “فيروس النيوليبرالية”. وتتوهم أن ما تعرفه عن أفكار القرن التاسع عشر يغنيها مشقة البحث عن معرفة جدية طالما أن وظيفتها كتابة مقال أو إصدار بيان.
ولا أدري إذا قسوت في النقد، لكن السيد ناهض وضع نفسه في الضفة المعادية للمقاومة سواء بنية طيبة أم لا. فهو لا يلوم أو يعاتب أو ينتقد، بل يتهم ويحرّض. فتهمة النيوليبرالية والمذهبية تصدر من الضفة المعادية وتتناغم مع الحرب الأمنية والعسكرية. ثم إنه أصرّ عليها في ردّه على سيف دعنا. وما يؤكد خشيتنا أن السيد ناهض لا يهتم مطلقاً بالبدائل الاقتصادية والاجتماعية بذاتها، وهي موجودة على شكل بواكير في الأردن ولبنان والعراق... بمنأى عن تدخّل القشرة المعادية للمقاومة. كما لا يهتم لانفتاح حزب الله على قوى المقاومة والمناهضة همّاً بذاته. إنما يهتم بما يسميه استقلالاً مالياً عن إيران تمهيداً لاستقلال سياسي، على اعتبار أن إيران تخوض حرباً توسّعية عدوانية في العراق مثل الصهيونية في فلسطين والولايات المتحدة الأميركية في العالم العربي. ولا بدّ أن تصل هذه “النيّة الطيبة” قريباً إلى التحريض على حزب الله بتهمة العمالة للإمبريالية الإيرانية.
لكن الحريصين على المقاومة يهتمون بالبدائل الاقتصادية والاجتماعية بذاتها، وبانفتاح حزب الله هماً بذاته، حرصاً على تكامل المسألة الاجتماعية والمسألة الوطنية، وحرصاً على تعزيز المقاومة في مواجهة النيوليبرالية واستعمار فلسطين. فالتناقضات وتوسّع نفوذ دول الحقل الإقليمي، مهما بلغت مرارته، أمر آخر يمكن حله في الاندماج الإقليمي وتبادل النفوذ وتبادل المنفعة المشتركة نحو الأعلى. وتلك معركة قاسية، لا شك في ذلك، لكنها ليست معركة “ضد الإمبريالية”، وهذا ألف باء نيّات الطيبة.
القشرة المعادية للمقاومة ترطن يساراً ورأسها شوفيني وطني ضيّق. ووظيفتها التحريض على «أرتين» الذي لم يستطع أن يحل وحده محل الجيش في الجو والبحر والأرض والسماء، فيما الجيش يتفرّج ويوزّع على «أرتين» علامات حسن السلوك. ترطن يساراً متوهمة موقعاً وسطاً بين الضفتين المتقابلتين، رحم الله من قال: “لا وسط بين الضفّتين، بل مستنقع آسن”.
* كاتب لبناني