وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

مرّت ذكرى اغتيال الرئيس السادات بدون احتفالات كبرى. إلا أن الواقع السياسي لم يحرمه هديةً تُبقي صورته حاضرة على نحو لم يتوقعه أشد المتحمسين لمنهجه في إنهاء الصراع الإسرائيلي. البعض رأى السادات طليعياً في اللعب مع العقلية الإسرائيلية. الوحيد الذي ضحك عليهم واستعاد الأرض... وحقق السلام بعد حرب انتصرت فيها الجيوش ومهدت الطرق إلى طاولة المفاوضات.
السادات مات وسرّه معه. هو الواقعي الذي صدم جيوشاً كبيرة بقفزته الغريبة في الهواء والسفر إلى إسرائيل. لكن الحكام بعده واقعيتهم أكثر رداءة، وقفزاتهم إلى مستنقعات وأنفاق لا نهاية لها. السادات انتزع لذّة المقامرة، بينما خصومه وعشاقه السريّون امتصّتهم المتاهة الإسرائيلية.
الفرق بين السادات وهؤلاء في أنه موهوب، وهم عراة من الكفاءة ومن القدرة على ملء الفراغ بين الحاكم والجاسوس.
هدية هذا العام حصل عليها السادات من الرئيس محمود عباس، آخر سلالة الأبوات الفلسطينيين... سليل فصائل النضال المسلح وتربية ثعلب المفاوضات «أبو عمار». صحيح أنه يشبه الموظفين في أيامهم الأخيرة حيث ينتظرون رصاصة الرحمة أو مكافأة نهاية الخدمة... لكنه في النهاية الرمز الناجي لجيل الثورة المسلحة (الستينيات) وسلام الشجعان (التسعينيات).
جيل السير بين دربين (النضال المسلّح والمفاوضات... التي تبدو بلا نهاية)... الذي بحث عن «سادات» فلسطيني وكاد أن يكون «أبو عمار» لولا الموت الغامض.
أبو مازن ليس موهوباً ليحلم بالوصول إلى مكانة السادات فلسطينياً. على العكس، يمنح وجوده «بطولة» إضافية للسادات الذي اتهم بالخيانة... ولا يمكن وضعه في قائمة واحدة مع موظف نمطي ينفّذ التعليمات بدون تفكير، ويطيع سادته، وإن وصل الأمر إلى فضيحة لا يمكن تغطيتها.
أبو مازن حرم القضية الفلسطينية نقلةً نوعية... حين طلب تأجيل مناقشة تقرير غولدستون الذي يدين جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة. أغلب الظن أن هذه فكرة مصرية تبحث عن تهدئة قبل المصالحة الفلسطينية واقتراب التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي.
ربما قيل لعباس: اطلب التأجيل بنفسك، لتبدو هذه مبادرة إيجابية.
ولم يفكر أبو مازن في أن مبادرته تحولت إلى فضيحة... وأن ذلك سيكون عبر نتنياهو الذي كشف أن إسرائيل حصلت على معلومات من الرئيس عباس نفسه.
الفضيحة رغم كل شيء صادمة. خرجت التظاهرات واستأسد محمد دحلان وطلب التحقيق... وأراد عباس الاتفاق فألغ لجنة تحقيق مهمتها البحث في ملابسات طلب إرجاء التصويت على التقرير في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
التقرير يدين جرائم الحرب الإسرائيلية على نحو قال خبراء العدالة الدولية إنها الفرصة لاصطياد مجرمي الحرب في إسرائيل. وكان من الممكن أن يتحول التقرير إلى مستند في يد المحكمة الجنائية الدولية على غرار ما حدث في جرائم نظام البشير في دارفور.
وهي «فرصة ضائعة» لا تمنح «طوق النجاة» فقط لمجرمي الحرب الإسرائيلية، كما قال الغاضبون من قرار أبو مازن، لكنها تمدّ حبل الخناق على فرصة خروج القضية الفلسطينية من حالة «الاحتقان المميت».
لا يحتاج أبو مازن إلى فضيحة جديدة... ولا غضب جديد. فهو علامة على «موديل» يقوم بمهمته كاملة لتفكيك القضية.
حكام يراهم الناس جواسيس. والمشكلة أنهم صغار لا يستطيعون الخروج عن معاداة وجودهم على رأس السلطة... وأبو مازن أقام معادلته على توازن ضعيف بين شرعيته الداخلية وقبول القوى الإقليمية والدولية به... لم يكن مزعجاً إلا لمؤيديه في الداخل... لأنه ينفّذ تعليمات مانحيه الشرعية (في القاهرة وتل أبيب وواشنطن) ويختار وكيلاً إقليمياً ليسير في ظله.
والحياة في الظلال لا تخلق سوى متسوّلين... وهذه مصيبة الحكام الجواسيس هذه الأيام. مصيبتهم أنهم لا يملكون أدوات الحكم... ولا مهارة السلطة القادرة على البناء... لا يعرفون ماذا سيحدث بعد فك مسامير القضية. إنهم يفكونها والسلام... لماذا؟ ولأيّ سبب؟ لا فرق.
وهذا ما يجعل أبو مازن بعيداً عن التقويم ولا يمكن النظر إليه من منطلق الاختلاف... إنه الوجه الأمثل لواقعية حكام هذه الأيام، حيث لا شيء مستحيل ولا فضيحة تجرّس... ولا تسوّل ينفع.
هذه هي الهدية التي تجعل السادات بطلاً للحرب والسلام. فقد انتصر حيث هزم زعيم الأمة الكبير... وجنح إلى السلم فاستعاد أرضه... وتعامل مع بيغن وموشي دايان وغولدا مائير تعامل أنداد. انتزع منهم الأرض وقادهم إلى ما يرونه فخاً.
السادات فكّ مسامير الدولة التي بناها عبد الناصر، لكنه كان يخطط لنتيجة التفكيك.
أما أبو مازن، فلم يفكك ولا يفكر ولا يقوى حتى على تجنب آثار الفضيحة.