علاء اللامي*تعج الصحف بأخبار وشائعات عن انضمام كتلة «العراقية» التي يتزعمها أول رئيس وزراء في عهد الاحتلال، السيد إياد علاوي، إلى قائمة «الائتلاف» التي يقودها السيد عمار الحكيم. وقد نشرت تسريبات قالت إن علاوي ووفداً من كتلته زاروا طهران سراً. ونشرت جريدة الحياة تقريراً إخبارياً بهذا المعنى، أورد كاتبه أن عدداً من النواب المنشقين عن هذه الكتلة، صرحوا بأن علاوي وجه ضربة قاصمة لما أسموه «التيار الليبرالي والعلماني» في العراق. وقال النائب عزة الشاهبندر، الذي انسحب من هذه الكتلة باكراً: «لا أعتقد أن ائتلافاً بهذا الحجم يمكن أن يتكوّن بجهد داخلي... إيران لعبت دوراً في تأليفه». كما نقلت الصحيفة عمن وصفته بـ«سياسي منشق من قائمة علاوي» قوله إن هذا الأخير «أخذ ضوءاً إيرانياً أخضر لرئاسة الحكومة المقبلة، وأن طهران غاضبة من المالكي وهي تعاقبه على مجموعة سياسات اتخذها ولم تكن متطابقة مع المصالح الإيرانية». مع أن القيادة الإيرانية، التي لا تفتقر إلى الدهاء، تعرف جيداً أن موهبة إياد علاوي الوحيدة هي طموحه الشديد والمنفلت من أي قيود أو اشتراطات للوصول إلى كرسي رئاسة الوزراء!
وبغض النظر عما احتوته هذه التعليقات من واقعية أو مبالغة، يمكن لنا أن نستشف ونستنتج من الحدث أموراً عدة، لعل من أبرزها:
ــــ أن ضخامة الحشد الذي أصبح ائتلاف السيد الحكيم يضمه، تدل بما لا يقبل الشك على ضخامة الخوف، بل الرعب الذي يسيطر على ذهنية مخططي سياسات القيادة الإيرانية بصدد العراق، من احتمال انهيار النظام السياسي الطائفي الذي رفضته أصوات العراقيين في انتخابات المجالس المحلية الأخيرة. وما زال المالكي، حتى هذه اللحظة على الأقل، أقوى المتمردين والمنشقين على هذا النظام وأخطرهم، والمهددين له، رغم تردده وتلكئه وافتقاده للخطوات العملية التي تكسو عظامه البارزة باللحم السياسي الحقيقي، وخصوصاً في موضوع القطع مع الاحتلال ومعاهدته الأمنية الاستعمارية، والخروج من قمقم العملية السياسية الاحتلالية إلى فضاء النظام الوطني الديموقراطي الذي يعمل على إنهاء الاحتلال سريعاً، ويحرّم الطائفية ويطلق عملية مصالحة اجتماعية وسياسية تنهي عملية الانتحار الجماعي البطيء الذي يدفع الاحتلال الشعبَ العراقي إليه.

انكسار الطائفية السياسية وتلاشيها بلغا على المستوى القاعدي مرحلتهما النهائية
ــــ يستشف المراقب من هذا الحدث ميكيافيلية سياسات النظام الإيراني وحلفائه من قادة الكتل والأحزاب التي انضمت إلى ائتلاف الحكيم. فلم يكن البعض يتصور، حتى في أشد الكوابيس فظاعة، أن تحدث معجزة «في بلد الألف معجزة ومعجزة»، ويجلس إياد علاوي جنباً إلى جنب مع رئيس الكتلة الصدرية في تحالف سياسي واحد، أو أن يتخلى الجعفري عن طموحه لنيل كرسي رئاسة الوزراء لمصلحة خصمه اللدود علاوي.
ــــ انكسار الطائفية السياسية وتلاشيها بلغا على المستوى القاعدي مرحلتهما النهائية، ولم يعد قادراً على أن يلمّ شعثه ويسند قامته، ولكنه على مستوى الزعامات والمؤسسات السياسية ما زال كما هو، إن لم يكن قد ازداد صلابة وتماسكاً. فرد فعل الذين رفضوا انخراط علاوي في ائتلاف الحكيم، لا يخلو من الرائحة الطائفية، والذين انسحبوا من أحزابهم ليؤلّفوا قوائمهم الخاصة، وآخرهم السيد طارق الهاشمي، لا تخلو دوافعهم من الحسابات الانتخابية الطائفية. فهؤلاء، وقد توجسوا خيفة من انصراف الجمهور في القواعد الشعبية عن الشعارات الطائفية، أرادوا أن يحافظوا على ما بقي من الرصيد الطائفي القديم، تحت شعارات احترام ما يدعونه «التوازن الاجتماعي»، وهو الاسم الحركي الجديد للمحاصصة الطائفية الذي اخترعه الهاشمي أخيراً، ويضيفوا إليه شيئاً جديداً من خلال رفع الشعارات الشعبوية والوطنية الرائجة في السوق السياسي اليوم. والاستدراك الأخير لا يكاد يُستثنى منه طرف سياسي عراقي واحد.
ــــ المأزق التاريخي المركب، عنينا مأزق الاحتلال وحكم المحاصصة، ومأزق ما بقي من المقاومة العراقية وقوى مناهضة الاحتلال جمعاء، قد بلغ درجة لا تنفع معها الحلول الجزئية والترقيعية، ولا الأدوية المهدئة. وليس من خيار آخر أمام قوى المجتمع العراقي سوى كنس الطائفية السياسية المتمثلة بائتلاف الحكيم والتحالف القومي الكردي وما بقي من جبهة التوافق، وإنزال الهزيمة بها في الانتخابات المقبلة. وبخصوص الساحة الكردية، فليس مستبعداً أن يتمكن تيار المنشقين على دكتاتورية العائلتين «الطالبانية والبرزانية» من توجيه ضربة قاصمة وانتزاع التمثيل الكردي منهما، مع أن تغييراً كهذا لا يخلو من خطورة صعود من هم أكثر تطرفاً قومياً في التيار المنشق.
ــــ تعكس الحملات الدعائية، والحرب النفسية التي تشنها أطراف ائتلاف السيد الحكيم، والصدريون الذين حشروا أنفسهم في مغامرة خطيرة وغير محسوبة العواقب ضد قائمة المالكي («دولة القانون»)، حجم المخاوف من خسارتهم هم، وخروجهم نهائياً من الميدان. هذه الحملة ستستمر، وقد تتحول إلى حرب اغتيالات شاملة ضد مناوئي الطائفية عموماً، وضد مؤيدي المالكي الأكثر صلابة في عدائهم للطائفية، بغية إخضاعهم أو الحد من نفوذهم. وقد لا يسلم منها المالكي شخصياً.
ــــ سيواصل المالكي تردده وتلكؤه السياسي، رغم ما عرف عنه من جرأة شخصية عالية، وستستمر محاولاته لجمع ما لا سبيل إلى جمعه في سلة واحدة. فهو يريد القطع مع المحاصصة الطائفية مع المحافظة على ما يسمى بـ«العملية السياسية» القائمة على أساسها. هذا التردد ناجم أصلاً عن قلة ثقة المالكي بالإرادة الشعبية العراقية، ومراهنته على إرادات مصطنعة بديلة، ومن الضغط الارتكاسي الذي يمارسه عدد من مستشاريه وبينهم طائفيون صرحاء لا يريدون القطع مع ائتلاف الحكيم. وللإنصاف، فبينهم أيضاً وطنيون ثابتو العزم صرح أحدهم بأنه يفضل أن يُهزموا في الانتخابات المقبلة مع الثبات على الخط الوطني المناوئ للطائفية على الانتصار الانتخابي بثمن المساومة على الثوابت الوطنية.
ــــ الأطراف الأخرى المناوئة للطائفية والاحتلال، كجبهة المطلك مثلاً، والكتل والجبهات والتحالفات الصغيرة الأخرى التي راحت تنتشر كالفطر، ستواصل سياسة الضياع وفقدان البوصلة وردود الأفعال الانفعالية. أما حزب البعث، (ولا نقصد جناح محمد يونس الأحمد المتحالف مع تنظيم القاعدة التكفيري، بل جناح الدوري)، فليس ثمة إشارات حقيقية على أنه سيغادر سياساته الاستحواذية المعلنة تحت الشعار الشمولي والمفرِّق لقوى مناهضة الاحتلال الحقيقية: «نحن الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي». وتقوم سياستهم هذه على مطالبة المالكي بالاستسلام التام لهم والعودة بالعراق إلى المربع الأول، وهذا طبعاً يصب في مصلحة أعداء المالكي في الائتلاف الطائفي المزيّن هذه المرة بعلمانيي علاوي وليبرالييه المتحالفين عميقاً مع الاحتلال. من الواضح أن فرزاً عميقاً يحدث هذه الأيام في المشهد السياسي العراقي، ويخطئ من يستسهل الأمور فيرمي «الرضيع مع المياه الوسخة في الوعاء»، على اعتبار أن السمكة جائفة من رأسها. فهذه النظرة العدمية ستؤدي إلى كوارث جديدة. غير أن من يراهنون على المالكي دون قيد أو شرط، لا يقلون عدمية، لأنهم يراهنون على قبضة شعارات وأنصاف خطوات وأرباع إنجازات، وخيبات عديدة سببها تردده وشراسة خصومه من الطائفيين الشيعة والسنة والقوميين الأكراد ودهاؤهم. ولكن، ما لا جدال فيه، هو أن انتصار ائتلاف الحكيم سيعني كوارث أثقل عياراً، لعل من أولاها ضياع كركوك التي سيضحي بها عبد المهدي أو علاوي للأكراد مقابل ضمان أصوات كتلتهم لنيل كرسي رئاسة الوزراء، واشتعال الوضع الأمني الذي قد يؤدي سريعاً إلى عودة المليشيات وفرق الموت الطائفية الشيعية والسنية إلى التذابح والقتل على الهوية، وبما يفوق ما حدث في سنتي 2006 و2007. كما أن هذا الانتصار سيعني أيضاً تاريخياً وعملياً أن العراق قد دخل مرحلة الاحتلال الإيراني المباشر!
يدرك ذلك خصوم المالكي ممن هم خارج ائتلاف السيد الحكيم وداخل «العملية السياسية الاحتلالية»، من أمثال المطلك والعليان. ولكن منطلقاتهم السياسية والمجتمعية القاصرة وطنياً وتاريخياً تمنعهم من الخروج على ما اعتادوه من شعارات وسياسات استئثارية وانقلابية وإلغائية، تبلغ غالباً درجة تجريد خصومهم من الهوية العراقية والأصول العربية. أما السيد نوري المالكي ذاته، فهو أمام خيار تاريخي. فإما أن يكون ممثلاً ومطبقاً عملياً للثوابت الوطنية التي كررها لفظياً مراراً، وإما ألا يكون شيئاً مذكوراً فينتكس ويلتحق بعلاوي والجلبي والجعفري في ائتلاف الحكيم. يفاقم من صعوبة هذا الخيار الوضع الخاص بالمالكي داخل بيته السياسي (حزب الدعوة وقائمة «دولة القانون»)، الذي يلخصه بيت المتنبي العظيم مخاطباً سيف الدولة الحمداني، (مع الفارق الهائل طبعاً بين «سيف الدولة» و«دولة المالكي»). يقول أبو الطيب إذاً: وسوى الرومِ خلفَ ظهرِكَ رومُ، فعلى أي جانبيك تميلُ؟
* كاتب عراقي