همام الرفاعي*في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، أجرت مجموعة من الأساتذة والباحثين المتخصصين في علم الإناسة (أنتروبولوجيا) في جامعة هارفرد المرموقة أحد أكثر الأبحاث الأكاديمية حساسية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تريد أن تعرف ماذا ستكون ردة فعل المواطنين السوفيات إذا أقدمت الولايات المتحدة على غزو روسيا. وبناءً عليه فقد أجرى علماء الإناسة الأميركيون آلاف المقابلات مع النازحين الروس المقيمين في معسكرات لللاجئين في الغرب.
أول ما لفت انتباه الباحثين، أنه بالرغم من أهوال الحرب ومآسيها وصعوبات الحياة الجمة في بلد خرج من الحرب منتصراً، ولكن مدمراً تدميراً شبه كامل بفعل البربرية النازية، فإن اللاجئين كانوا يعبرون عن آرائهم وانفعالاتهم عن طريق إطلاق النكات السياسية. وقد بقيت خطط غزو أميركا للاتحاد السوفياتي حبراً على ورق، إلا أن دراسة جامعة هارفرد كانت إحدى الإشارات المبكرة لنوع فريد من الغزو، هو غزو الثقافة الشعبية السوفياتية بسيل لا ينتهي من النكات السياسية. كانت الحرب الباردة في أوجها، وكانت تخاض على جميع الجبهات، ومن ضمنها الجبهة الثقافية كما يبين كتاب:Frances Stonor Saunders (الـ CIA والحرب الباردة ثقافياً) الذي يوثق بالتفصيل تمويل وكالة الاستخبارات الأميركية سراً لنشاطات ثقافية وأكاديمية عبر العالم. ورغم الأهمية الكبرى لثقافة النخب التي ينصب عليها اهتمام Saunders في ميدان حرب الأفكار، فإنه لا يمكن مقارنة قدرتها ومدى تأثرها بالثقافة الشعبية، وخصوصاً تراث الأدب الشعبي الشفهي الذي تنتمي إليه النكتة. فالنكتة على أنواعها شكل أدبي شديد الجاذبية لما يضفيه من مرح وحبور على مستقبليه ومرسليه، وكذلك لسهولة تداوله في الحياة الاجتماعية اليومية. أما النكتة السياسية، فتدخل في نطاق الأدب الشعبي التهكمي المعارض للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وكجنس أدبي يتصدى للشأن العام، تتمتع النكتة السياسية بمزايا استثنائية تجعل منها سلاحاً نقدياً فتاكاً. فليس للنكتة السياسية مؤلف معروف، بل عدد غير محدود من الرواة الذين يتفننون بسردها والتنويع والإضافات على النص الأصلي حسب مقتضى الحال. وهي تنتشر في صفوف الجماهير انتشار النار في الهشيم منشئة نوعاً من طقوس التواطؤ السرّي بين الرواة والمستمعين. وقد تحولت النكتة السياسية على أيدي خبراء الدعاية والحرب النفسية إلى فيروس معدٍ استشرى في مجتمعات دول المعسكر الشرقي السابق وتجاوزها إلى الأجهزة الحزبية والرسمية نفسها، وانسحب ذلك على الحلفاء من أنظمة تقدمية وحركات تحرر وطني في العالم الثالث. ومن الطريف فعلاً أن تتنبّه الدوائر الاستخباراتية المعروفة بميولها المحافظة واليمينية إلى الدور التحريضي والتعبوي الذي يمكن أن تلعبه النكتة السياسية فيما تكاد تغفل عنه أو تتناساه أحزاب وحركات سياسية تنتسب أيديولوجياً إلى اليسار وتتبنى مقولات الالتصاق بثقافة الشعب الكادح ونظريات المثقف العضوي الغرامشية. فصورة المثقف اليساري في ثوب الكادر الحزبي، ومن ثم الممسوخ بيروقراطياً سوفياتياً خلف المكتب، أو صورة المثقف اليساري المتعطل في المقاهي، المتشدّق بمصطلحات معقدة وغامضة، المتبجح بإلحاده والمتعالي على المعتقدات الشعبية «البالية» هي أبعد ما تكون عن صورة المثقف العضوي.

تتنبّه الدوائر الاستخباراتية المحافظة إلى الدور التحريضي الذي تلعبه النكتة السياسية، فيما تغفل
عنه أحزاب اليسار

وعلى أي حال، لم يكن استخدام النكتة السياسية تكتيكاً عرضياً من تكتيكات الحرب الباردة، بل استمر لعقود وظل ثابتاً من ثوابت حصار وتطويع الاتحاد السوفياتي السابق ونخر معنويات أنصاره. وقد وصل الاهتمام بالنكتة السياسية كسلاح للهيمنة الثقافية إلى أعلى سلّم هرم السلطة في الولايات المتحدة. فالرئيس الأميركي السابق رونالد ريغن، الذي كان يصف الاتحاد السوفياتي السابق في خطبه وتصريحاته «الجدية جداً»، بـ«إمبراطورية الشر»، كان يحفظ عشرات النكات السوفياتية ويرويها لضيوفه الرسميين، ومنهم الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف.
وبلغ ولع ريغن بالنكتة السوفياتية أن أصدر أوامره إلى وزارة الخارجية الأميركية بجمع النكات الأكثر نجاحاً وانتشاراً وتقديم تقرير أسبوعي عنها للرئيس مباشرة. وبلغ العدد الكلي للنكات المقدمة لريغن وحده 15000! وكثيراً ما كان ريغن نفسه إحدى شخصيات النكتة المروية كما في المثال التالي:
«توافي أحدهم المنية ويقضى عليه بسكنى الجحيم. إلا أنه يتبين له أن في العالم الآخر جحيماً رأسمالية وأخرى اشتراكية وأن بوسعه أن يختار. ومن البديهي أن صاحبنا يريد المقارنة بين الاثنتين قبل أن يحسم أمره. فيتوجه أولاً إلى جحيم الرأسمالية، وهناك عند بوابة الدخول، يتراءى له الشيطان وملامحه مشابهة لملامح رونالد ريغن. يسأل الزائر: «ما نوع الخدمات التي تقدمونها هنا؟»، فيجيبه ريغن: «في جحيم الرأسمالية، تسلق بالماء المغلي ثم تقلى بالزيت ثم تقطع نتفاً صغيرة بسكاكين حادة». «هذا مرعب»، يشهق الرجل. «من الأفضل أن أذهب لألقي نظرة على جحيم الاشتراكية». ويتوجه الرجل إلى هناك بالفعل، فيطالعه قبل الوصول طابور طويل يمتد حتى البوابة الرئيسية. ينتظم الرجل في الطابور، وبعد انتظار مديد يأتي دوره. عند مدخل جحيم الاشتراكية يتبدى له الشيطان بهيأة رجل عجوز ذي لحية كثة كلحية كارل ماركس. «ما زلت في العالم الحر كارل»، يقول الزائر. «ولكن قبل أن أدخل جحيم الاشتراكية، أود أن أطلع على نوع الخدمات التي تقدمونها هنا؟». فيجيبه ماركس بشيء من نفاد الصبر: «في جحيم الاشتراكية، تسلق بالماء المغلي ثم تقلى بالزيت ثم تقطع نتفاً صغيرة بسكاكين حادة». «ولكن... ولكن هذا مطابق لما يجري في جحيم الرأسمالية!» يحتج السائل. «لماذا إذاً هذا الطابور الطويل من المنتظرين؟» «حسناً»، يتنهد ماركس. «أحياناً ينقطع عندنا الماء الساخن، أحياناً ينقطع الزيت، وأحياناً ليست لدينا سكاكين».
* كاتب لبناني