محمود عبد الغني
الطابع الديداكتيكي المهيمن على شخصيّة أحمد المديني يستوقف كلّ من يلتقي هذا الروائي المغربي. من أين يأتي بهذه النزعة؟ قد يكون اكتسبها بفعل أصوله ونشأته. هل لأنّ والده كان من وجهاء القوم في جهة الشاوية (الشمال الغربي للمملكة المغربيّة، تضمّ مدينة الدار البيضاء)؟ أم أنّها طبعت تصرفاته لاحقاً، بعدما مارس التدريس سنوات طويلة، بين المغرب والجزائر وباريس؟ أم أنّها نزعة متأخرة تسربت إليه عبر ميلان كونديرا، وعمقها مع صاحب نوبل ف. س. نايبول، هذا الروائي الإنكليزي من أصل هندي الذي خصص له المديني جزءاً كبيراً من «عمل الكاتب؛ الكاتب وهو يعمل» (دار أزمنة ـــــ 2008)؟ يعترف المديني بتفوّق نايبول على صاحب «خفّة الكائن التي لا تحتمل»، في ما يخص هذه النزعة التعليمية.
والكاتب الذي بدأ النشر سنة 1967، في جريدة «العلم» أطلّ لاحقاً من خلال منابر عربيّة وعالميّة عدّة، بينها «النهار» و«السفير» اللبنانيتين، ومجلة «ماغازين ليتيرار» الفرنسيّة... يتوزّع إنتاجه اليوم بين القصة، والشعر، والنقد الأدبي والترجمة. كان المديني أوّل من ترجم «رسائل ريلكه إلى شاعر شاب»، و«رسائل فارغاس يوسا إلى روائي شاب»، ونشرها في كتاب وضع مقدمته، وضمَّنها نصائح إلى الشعراء والروائيين الشباب، وخصوصاً في ما يتعلّق بقراءة النصوص الكلاسيكية التي كانت محور الأحاديث والنقاشات، من دون أن تكون قد قُرئت بالفعل.
تهدد هذه النزعة التعليمية المديني دائماً بفقدان الأصدقاء، إلا أنّه لا يشهر راياتها إلا في وجه مَن «يستحق إسداء النصيحة». مع ذلك، هو لا يصدق مَن يقول إننا نعيش عصر فراغ الصداقات. والدليل أنَّه حالما يعود من باريس، يتحلّق حوله أصدقاؤه، من كل الأجيال، ومن كل الاتجاهات الأدبية. يعود المديني الذي يناديه أصدقاؤه بـ«مولاي أحمد» نظراً إلى نسبه الشريف، محمَّلاً بالهدايا، أغلبها كتبٌ من مدينة الأنوار، من آخر الثمار التي حبلت بها المطابع هناك. تراه يحمل في جعبته لكلّ ذي غرض غرضه: للناقد كتاباً نقدياً، للشاعر مجموعة شعرية، للروائي آخر الروايات (قد تكون لباسكال جاردان، أو باتريك موديانو، الذي كتب المديني قصة جميلة مستلهمة من روايته «مقهى الشباب الضائع»).
أما رفاقه القدامى الذين تفصله عنهم مسافة الحياة أو مسافة الموت، فقد خلّدهم بنص روائي جميل عنوانه «رجال ظهر المهراز»، في إشارة واضحة إلى كلية الآداب «ظهر المهراز» في مدينة فاس، حيث تابع دراسته الأكاديميّة. في تلك الجامعة، تخرَّج حاملاً دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها، قبل أن ينال دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من «جامعة السوربون» عام 1990. هذا هو المديني... بالنسبة إليه، كل شيء قابل لأن يصبح حكاية، كأنّ به شيئاً من قناعة غابريال غارسيا ماركيز: «نعيشها لنرويها». الحكايات تنحلّ عقدها، أو تتشابك، لتبدأ حكايات أخرى. بالنسبة إلى الروائي المغربي، كل امرأة هي رواية، وكل مدينة هي رواية، وهذه الرؤية تسيطر على أحدث كتبه «أيام برازيلية وأخرى من يباب» (المركز الثقافي العربي).
يرى صاحب «مدينة براقش» أن المدينة تكون بيروت أو لا تكون. لم يقل هذا نصاً لكنَّ محكيّاته عن العاصمة اللبنانيّة، وعدد أصدقائه في تلك المدينة الطروادية، يفوق عددهم في أي مدينة أخرى. يقول في مقدمة كتابه في أدب الرحلة: «عدت إلى باريس وأنا أنوي الارتحال إلى بيروت، بيروت التي لا يشيخ معها القلب ولو وهن الجسد. لكن لبنان كان يتعرض لعدوان يعمل تدميراً وقتلاً. كأنّنا جيل منذور للمأساة كي يعانق زبناؤنا نيازك العيش الرضي. لا بأس إن كان الأمر كذلك. الرحلة إلى بيروت، كانت عبر عمان حيث لي أصدقاء لا بد من صلة الرحم معهم». لا يسمّي أصدقاءه في عمان، وعلى رأسهم الشاعر العراقي حميد سعيد والروائي الأردني إلياس فركوح.
وعندما يغضب أحمد المديني، يخرج ويصفق الباب خلفه. هذا ما حدث سنة 1998، عندما غادر «اتحاد كتّاب المغرب» لتأسيس جمعية ثقافية اختار لها اسم «رابطة أدباء المغرب». وحتّى يومنا هذا، لم يتسلَّم المديني إشعاراً بصفته رئيساً للرابطة، إيصالاً بإيداع الملف الإداري القانوني الذي يُمنح عادةً للجمعيات. رغم ذلك، فالرابطة تعمل وتصدر كتباً وتنظّم لقاءات. لكنَّه لم يتأخر عن تلبية دعوة «اتحاد كتّاب المغرب»، رغم أنَّ تأسيسه للرابطة أثار من حوله زوبعة، كلَّفته الاستغناء عنه كمدير مكتب مناطقي لإحدى الصحف المغربية في الرباط. لم يكن المديني يظنُّ أنَّ الأمر سيأخذ ذلك البعد، وأنَّ تصفية الحساب معه ستجري بتلك السرعة وبتلك الطريقة. لكنَّه في المقابل، عدّ الأمر مربحاً بالنسبة إليه، فعليه أن يتفرَّغ لأعمال بدأها ولم يكملها، وأن يبدأ أعمالاً أخرى تغازله.
طيلة تلك السنوات، أحبَّ المديني المدن، الدار البيضاء، الرباط، أصيلة، باريس، بيروت، عمان. عندما يحكي عنها، بعد كل عودة منها يردِّد على مسامع الجالسين معه خصالها، بحروف وكلماتٍ ملأى بالموسيقى، كأنَّه يردّد قصيدة حفظها عن ظهر قلب، أو كأنّه يتلو دعاءً. يمتدح في بيروت طابعها الطروادي، كيف تدمر نفسها وتنهض من جديد. ويأخذ على أهل الرباط بخلهم وافتقادهم الطيش، أبا المغامرة العظيم. أما الدار البيضاء التي يذهب إليها في القطار، فإنه يشعر بالمسؤولية في الحديث عنها. إنها مدينة طفولته وجزء كبير من حياته. ويؤكد أن البيضاويين قلقون على مدينتهم، والإهمال الذي يتآكلها من الداخل كالمرض الخبيث. ثم ينهي الحديث، وينتقل من دون رابط إلى الحديث عن الملذات... الملذات أمر متعال. أهم من الحقيقة، أي حقيقة. عش لحظتك، وعندما تنتهي «هيا نلعب»، كما جاء في إحدى قصصه الجميلة. اللعب يؤمن العبور من الوعي إلى الحلم.


5 تواريخ

1949
الولادة في مدينة برشيد (المغرب)

1967
بدأ النشر في الصحافة

1972
التحق باتحاد كتّاب المغرب

1990
نال دكتوراه الدولة في «الآداب» من «جامعة السوربون» في باريس

2009
نشر في بيروت والدار البيضاء كتاب «أيام برازيلية و أخرى من يباب» (المركز الثقافي العربي)