مع إطلالة الخريف، تسارع نسوة البقاع إلى إعداد المونة، وفق برامج زمنية محدّدة لكل منها، فتتحوّل البيوت البقاعية إلى خلايا نحل تسعى إلى توفير الزاد اللازم لمواجهة عزلة الشتاء البقاعي البارد وغدرات الزمن
البقاع ــ رامح حمية
حالما يطلّ أيلول «بطرفه المبلول» بأمطار الخريف كما يطلق عليه اللبنانيون، تبدأ استعدادات أهالي القرى والبلدات البقاعية، بالاستعداد لتوفير مونة شتائهم الطويل والقارس. وتعدّ المونة في البيوت البقاعية مصدراً غذائياً وصحياً لغناها بكل أنواع البروتينات والفيتامينات، ولمعرفة ربّات المنازل بمكوّنات ومحتويات كل نوع منها. وتزخر غرفة المونة في كل منزل بقاعي بالعديد من الأصناف، بدءاً بالحبوب (عدس، برغل، حمص، فاصوليا) والكشك ومكدوس الباذنجان وربّ البندورة والقاورما، مروراً بالمربيّات (المعقود) على أنواعها، والكبيس والمخلّلات، وصولاً إلى توضيب بعض أنواع الخضروات في الثلّاجات وتجفيف الفاكهة كاللوز والجوز والمشمش والتين والزبيب. ربة المنزل عزيزة حمية ترى أن المونة الشتوية هي مصدر غذائي رئيسي بالنسبة إلى أهالي القرى والبلدات البقاعية في فصل الشتاء، نظراً إلى حاجة كل منزل إلى الموادّ الغذائية في فترة الثلوج والأمطار، وهي «فترة عزلة بين المنازل، وحتى بين القرى في بعض الأحيان» كما تصفها. وهو واقع يتطلّب موادّ غذائية مختلفة، تسعى العائلات في البقاع إلى تخزينها وتوفيرها في مواسم الخير لمواجهة شتى الأمور التي من الممكن أن تحصل «في دولة لا تهتمّ ولا تعالج مشاكل مواطنيها الاقتصادية والمعيشية». وتشير حمية إلى أن كمية المونة تختلف بين منزل وآخر بحسب عدد أفراد العائلة من جهة، والقدرة الشرائية للعائلة من جهة ثانية، فيما تبقى طرق الإعداد واحدة، لكن مع بعض الفروق البسيطة، حيث تفضّل بعض النسوة أن «يتفنّنّ» في إعداد بعض المونة، إضافةً إلى زيادة أنواع أخرى كالمربّيات التي باتت لا تقتصر على التين والمشمش، بل تعدّتها لتشمل الباذنجان والكرز والفريز والسفرجل والتفاح وحتى البندورة الصغيرة.
من جهتها، تؤكد سوسن البواري أنها أنهت جميع أنواع المونة منذ منتصف أيلول، لكونها قد بدأت بإعدادها منذ أول آب، وذلك هروباً من تراكم متطلّبات أيلول المادية من مدارس ومحروقات وملابس. ورأت أن المونة باتت تمثّل «عبئاً جسدياً ومادياً على كل منزل في ظل وضع معيشي صعب جداً»، في الوقت الذي لا يمكن فيه التخلي عنها لأهميتها في مواجهة «غدرات الزمن وقساوة الشتاء البقاعي». وتضيف إن ثمة أنواعاً من المونة يجري إعدادها بحسب وقت موسمها. «فحليب الكشك يجب أن يكون دسماً، لذلك يُجمّع بعد انتهاء “مربعانية” الصيف، أما المربّيات كالكرز والمشمش والفريز فتُعدّ خلال الصيف».
وتحتاج المونة إلى جدول زمني لبرمجة إعدادها، وخاصةً أن بعض أنواعها يتطلّب أكثر من أسبوع من الإعداد، فضلاً عن جهد لمتابعته. فتشرح زينب ناصر أن الكشك مثلاً يحتاج إلى جمع كمية الحليب المطلوبة وإعداد البرغل تمهيداً لمرحلة «البل» (المزج بين البرغل والحليب والملح) التي تتطلب فترة تراوح بين 7 أيّام و12 يوماً، كما يحتاج إلى متابعته على الدوام حتى لا «ترتفع حرارته ويصبح مرّاً»، وذلك حتى يبلغ طعمه «الحموضة» اللازمة ليجري بعدها نشره وتجفيفه بغية طحنه وتوضيبه. أما مكدوس الباذنجان، فيحتاج إلى السلق.
تجتمع النسوة ليساعد بعضهن بعضاً، ويوضع الملح داخل كل حبّة، ثم يجري تجفيفها من الماء تمهيداً لحشوها بالجوز أو الفستق مع الفليفلة والحر والثوم. وتضيف ناصر إن المونة لا تقتصر على الكشك والباذنجان، بل تمتد لتشمل أصنافاً عديدة من المخلّلات (خيار “مقتة” والكوكتيل الذي يشتمل على القنّبيط واللوبياء والجزر) والمربّيات والقاورما، وجميعها تتطلّب جهداً ودقّة في الإعداد، وإلّا فـ«مصيرها العفن والاهتراء في حالة المكدوس والمخلّلات، والطعم المرّ في حالة الكشك».
يبقى أن بعض أنواع مونة البقاعيّين، وفي مقدمها الكشك والقاورما ومكدوس الباذنجان، تعدّ من الوجبات الغذائية التي «تنزح وتهاجر»، إذ ترسَل إلى الأبناء والأقارب المنتشرين في بقية المناطق اللبنانية أو في الاغتراب، وتمثّل لهم الغذاء الصحي الغني والشهي، الذي يحوي بين ثنايا طعمه حنيناً وشوقاً إلى الأهل والوطن.
ولعل أكثر ما ينغّص طعم المونة الشتوية عند البقاعيّين، الضغوط المعيشية والاقتصادية السائدة التي يعيشها المواطن البقاعي، والتي دفعت غالبية العائلات إلى تقسيم إعداد المونة إلى مراحل متعددة وبكميات مختلفة، تجنّباً لإرهاق ميزانياتهم بجميع المصاريف دفعة واحدة.