من يدخل إلى مجمّع أسواق بيروت، يدرك أنه في مجمّع تجاري، لا في أسواق بالمعنى التاريخي. لكنّ ذلك ليس الضرر الوحيد الذي أصاب الناحية التاريخية، ففي الواقع كان بناء هذه الأسواق أشبه بمطحنة للآثار
جوان فرشخ بجالي
كان لافتتاح أسواق بيروت في الوسط التجاري وقع هائل على الشارع اللبناني. فمنذ أسبوع، والناس يتوافدون لزيارة المكان. منهم من يجده رائعاً، ومنهم من يراه من دون هوية ولا يفهم تسميته. فتلك المحالّ التجارية المتجاورة لا تتناسب ومبدأ السوق التاريخي. فزيارة المركز هي، في الواقع، زيارة مركز تجاري ضخم، وما استعمال كلمة «الأسواق» في تسميتها إلا لإعطائها بعداً زمنياً يذكّر بأسواق مدينة بيروت قبل الحرب، وللإحالة إلى آثار بيروت المكتشفة في الموقع. فما بين 1994 و1996 كانت هذه الأسواق تمثّل أكبر حفرية أثرية في وسط بيروت. موقع تعاقب على العمل فيه أكثر من أربع بعثات علمية، بعضها لبناني مثل فريق الجامعة اللبنانية وفريق الجامعة الأميركية الذي أنجز العمل بالتعاون مع علماء بريطانيين، إضافة إلى بعثات من الجامعات الدنماركية.
وتقول التقارير العلمية التي نُشرت سنة 1996 في مجلة «بعل» (المجلة العلمية المتخصصة في علم الآثار التي تنشرها المديرية العامة للآثار) إنّ «الدراسات الأوّلية أظهرت أن عمق الترسبات الأثرية يصل إلى ارتفاع أربعة أمتار على الموقع!». وكانت الحفريات الأثرية قد بدأت سنة 1994 بعدما أُخلي الموقع من كل أبنية الأسواق التي كانت مشيّدة هناك، وبقي في الساحة رباط ومدرسة محمد ابن عراق الدمشقي التي تُعَدّ المبنى المملوكي الوحيد في بيروت، ولا يزال سكان المدينة يعدّونه ذا قيمة دينية فيؤمونه للزيارة.
وقد أظهرت الحفريات الأثرية أن الموقع كان يستعمل أسواقاً لمدينة بيروت منذ الفترة الرومانية. فبمحاذاة الطرقات كانت تنتشر المحالّ التجارية المتلاصقة، التي زُيِّنت أرضياتها بقطع من الفسيفساء ذات الرسوم الحيوانية أو النباتية أو الأشكال الهندسية. واكتشف علماء الآثار أساسات جدران تلك المحالّ وقطع الفسيفساء: أسواق رومانية بأكملها تمتد على آلاف الامتار. لكن، لم يطرح مبدأ المحافظة عليها في مكانها، أو حتى رفعها بهدف إعادتها لاحقاً وإدماجها في المبنى الجديد! كل تلك الطروحات مكلفة جداً ولا تتماشى مع هدف إنشاء المباني الجديدة التي تحتاج إلى مرأب واسع.
أظهرت الحفريات أنّ الموقع كان يُستعمَل أسواقاً لمدينة بيروت منذ الفترة الرومانية
لكن هذا القرار لم يمنع الشركة العقارية من استعمال الاكتشاف للتسويق والترويج عن نفسها على أنها «أسواق عبر التاريخ». فخلال أعوام البناء، عرضت على جدران المبنى صور لبعض القطع الأثرية الصغيرة المكتشفة على الموقع. وهنا يكمن دهاء شركة الإعلانات التي تغاضت عن إبراز حقيقة الموقع التاريخية: فبدل إبراز حقيقة الأسواق وقطع الفسيفساء الضخمة، راحوا يبرزون صور القطع الأثرية الصغيرة الحجم التي قد تعرض في واجهات صغيرة. بهذه الطريقة لم يطرح يوماً موضوع المحافظة أو إعادة القطع الكبيرة إلى مكانها. وهنا تأتي أضحوكة «الممر الثقافي» الذي تروج له الشركة العقارية، التي تؤكد أنها حافظت على تاريخ الموقع عبر إبراز بعض اللوحات التي تحمل صوراً للقطع وشروحات عنها. والمضحك ـــــ المبكي هو قطعة الفسيفساء الموضوعة على الأرض، التي هي نسخة عن تلك المكتشفة. فبدل إعادة القطعة المكتشفة إلى مكانها وتقديم الشروح عنها، فضّل القيّمون على المشروع «تزوير» القطعة بنسخها ووضعها على الأرض لكي يسير فوقها الزائرون. بهذا الشكل، استبدل تاريخ «أسواق بيروت» بتاريخ آخر مصطنع ومزوّر.
ويبقى السؤال المطروح عن موقع المدينة الفينيقية الملاصقة للبناء الجديد، الذي هو تحت الردم منذ أكثر من 12 سنة. ويقول الدكتور حسين صايغ، المدرس في الجامعة اللبنانية، وهو الذي أدار الحفرية الأثرية على الموقع الفينيقي، «إن الفكرة الأساسية كانت لتأهيل الموقع والمحافظة عليه بعد انتهاء أعمال البناء. لكن حتى اليوم لم يلمّح أحد إلى أي عملية من هذا النوع للآثار المطمورة». ويلفت النظر إلى ضرورة ترميم الموقع الذي كانت تسير فوقه آلات البناء الثقيلة الوزن، قائلاً: «توقعاتي أن الموقع عانى كثيراً لجهة الحفظ. قد تكون جدرانه مدمرة، وحدها عملية الكشف عن الآثار ورفع الرمال التي استعملت لتغطية الجدران قادرة على إبراز ما جرى فعلياً. ويشير صايغ إلى أن موضوعاً آخر يشغل باله، هو القطع الأثرية المكتشفة على الموقع التي بقيت مدة 15 سنة في أقبية كنيسة مار جرجس في بيروت، وهي موضوعة داخل صناديق، إضافة إلى مئات من القطع الصغيرة والدقيقة الحفظ التي لا تزال في أكياس النايلون. وهذه القطع أساسية في عملية ترميم الموقع وتأهيله». لكن ما هو مصيرها اليوم؟ وهل أُتلفت؟ هل تعرّضت للعفن أو للرطوبة؟ أسئلة تأتي الإجابة عنها بعد الكشف على تلك القطع والتأكد من وضعها.
تجدر الإشارة إلى أن الموقع الذي نقّب عن آثاره الدكتور صايغ هو جزء من مدينة بيروت الفينيقية التي أظهرت الحفريات أنها شُيِّدت بناءً على تخطيط مدني واضح. فشوارع المدينة موازٍ بعضها لبعض، وهذا ما يؤكد أن التخطيط العمراني الذي يعرف «بالإغريقي» هو في الحقيقة فينيقي، وكان مستخدماً في بيروت. أهمية الاكتشاف أجبرت مؤسسة سوليدير، بطلب من لجنة الأونيسكو، على تغيير مخططها بالنسبة إلى بيروت والمحافظة على جزء من الموقع، على أن يُكشف عليه لاحقاً ويُدخَل في إطار المدينة الكبرى.
لكن حتى اليوم، لم تُعنَ أسواق بيروت بالآثار التي لا تزال مطمورة. فهل يقضي المخطط بتأهيل الموقع المجاور للأسواق واستعماله للترويج لها، أم أن بيروت الجديدة هي مدينة قُتلت ودُفنت ذاكرتها وهويتها التاريخية وباتت رهينة المستهلكين؟