أنسي الحاج

■ واضحون وملتبسون


لا أحبّ الدوغمائيين، علماً أن وجودهم ضروري لسببين على الأقل: أوّلهما أنه قد يتبيّن أنهم على حق، والآخر لكي يبدو تناقض المتناقضين علامة تفتيش حرّ بإزاء أصحاب الثوابت الذين يحتاجون إلى المتناقضين لإثبات جدّيتهم ومتانة ما يظنّونه مسؤوليتهم عن العالم. كنت أحسب المقتنعين، أصحاب اليقين، أشدّ الخلق خطراً، إلى أن خبرتُ المبشّرين، لا المبشّرين وكفى، بل المبشّرين المصرّين على الإقناع، بل الإفحام، أي أن يخرس الخصم تماماً. وقد لا تجد مشقّة في منازلة هؤلاء إلّا حين يتمتّع الواحد منهم بالصوت المغاوري العميق أو الجهوري العريض فتتخدّر به أو ترتعد فرائصك.
ونادراً ما تجد دوغمائياً مكتفياً بيقينه الذاتي، فلا بدّ له من توسّع، وإلّا أخَذَتْه الريبة بنفسه وراح بنيانه يتعرّض للانهيار. ان دماغه يعتاش من التهام أدمغة الآخرين.
شاهدتُ البارحة شريطاً وثائقيّاً عن الكاتب الفرنسي فرنسوا مورياك، سمعته فيه يعترف، بصوته الأبحّ المقصوص، أنه ليس شخصاً متناقضاً في نظر كارهيه فحسب بل أيضاً في نظر نفسه، لكنّه ـــــ وأضافها بشبه اعتذار ـــــ لا يعتبر ذلك نقيصة بقدر ما هو بحثٌ دائم وقلِق عن الحقيقة.
وفي حالات معيّنة يمكننا أن نضيف إلى أسباب التناقض الرغبة في إعجاب الجميع.
كان مورياك آخر كاتب فرنسي كاثوليكي شهير ومُعْلَن. وربّما غير فرنسي أيضاً. فلم يعد كاتب أو فنّان (آخر مشاهيرهم في هذا المعنى سلفادور دالي) يجرؤ أن يكون غير يهودي. حتى الذين ليسوا يهوداً. فهذا هو التحرّر في الوقت الحاضر. والتمدّن. والحداثة. وما بعد الحداثة.
ظلّ مورياك أحد المهيمنين على الرواية الفرنسيّة إلى أن نهشه جان بول سارتر في دراسة شهيرة عاب عليه فيها أنه يرسم أقدار شخصيّاته سلفاً، فلا حريّة تقرير مصير لديه... وجرّ سارتر وراءه كالعادة سيول المقلّدين ولم يلبث مورياك أن انكفأ عن كتابة القصّة.
وعندما نذكر سارتر لا مفر من أن يُذكر كامو. ثنائي حتميّ. قبلهما راسين وكورناي، وفولتير وروسّو، وموسّيه وفينيي... وغالباً ما كان الواحد في هذه الثنائيات يكره الآخر. سارتر، مثلاً، لم يرحم كامو إلّا حين رثاه. وقد تبادل فولتير وروسّو الكراهية بشغف شديد. ولا نعلم الكثير عن أدبائنا المعاصرين فلا تزال المجاملات والأكاذيب تكتنف سِيَرهم، وقد قيل بعض الخبر عن توتّر بين جبران والريحاني، وبعدهما بين أبو شبكة وكرم ملحم كرم، وبين الأخطل الصغير وأمين نخله، والأخطل الصغير وجريدة «المكشوف» بزعامة فؤاد حبيش، وبين خليل حاوي وبعض أركان مجلة «شعر»، والسبحة تكرّ لولا أنّ بعض حبّاتها لا يزال على قيد الممارسة، وسيفاجأ الأبرياء حين يكتشفون يوماً أن كثيرين ممّن جمعت بينهم الألسن والأقلام على أساس ثنائي لم يجمع بينهم شيء على الصعيد الأدبي، خارج الصدفة الزمنيّة أو الزمالة السطحيّة، وما بقي سوء فهم وضغائن...
ذلك، ولم نحسب بعد حساب الفنّانين. كأنْ يقال قيصر الجميّل ومصطفى فروخ، أو فروخ وعمر الأنسي، أو زكي ناصيف وتوفيق الباشا، أو الأول أو الثاني وفيلمون وهبة. وما أدرانا ما كان بين هذا وذاك، وذاك وذلك. وسوف يبقى الأخوان رحباني لغزاً إلى أن يفكّه سحر السَحَرة.
لا نجد مثل هذا الغموض في الآداب الغربيّة. لأندريه بروتون مؤلّفات مشتركة مع بول إيلوار ورونيه شار أو بينه وبين فيليب سوبو. عندما جمعت مارغريت بونيه آثاره وصدرت عن دار غاليمار الباريسيّة في سلسلة «لا بلياد»، توصّلت، بعد تمحيص المخطوطات وغيرها من الوثائق، إلى فرز كل سطر بل كل كلمة وتحديد الكاتب، وذلك من دون تخمين أو تكهّن بل بالبرهان القاطع. على أمل أن نبلغ بدورنا هذا المستوى من الدقّة والحرص فلا يسطو أحد على أحد ولا تضيع حقيقة. حتّى لو استهتر أصحابها بحقوقهم، وهذا من شيم الكرام.

■ احتياط


أقسى ما في الأمر، عندما تتعذّر الصلاة على صاحب المحنة، إذ يجفّ حلقه من فرط الفزع. صَلّوا سلفاً.

■ إيكهارت وابن عربي


يقول المعلّم إيكهارت (الدومينيكاني الألماني 1260 ـــــ 1327) إن الله لا يعطي الكائنات ملْكاً بل هو يعيرها الأشياء مجرّد إعارة. ويشبّه ذلك بالشمس «التي تكتفي بإعارة نورها». وفي مقابلة حديثة عقدها الأستاذ ميشال شودكيافيتش بين إيكهارت وابن عربي (1165 ـــــ 1240) يقول إن الرجلين يتشاركان، بين عديد ما يتشاركان فيه، في استعمال تشبيه المرآة: فالأول يقول إن الصورة التي نراها في المرآة ليست موجودة بذاتها بل هي تستمدّ ذاتها من المتمرئي فيها، غير أن هذه الصورة، وإن لم تمتلك الدرجة ذاتها من الوجود الواقعي للمتمرئي، ليست غير واقعيّة. وابن عربي، كلّما أراد الحديث عن العلاقة بين الله وما يتبدّى لنا كأنه «ما سوى الله»، يلجأ إلى تشبيه المرآة. وخلاصة قوله: إذا ما نَظَرْتُني في مرآة، فما أراه هو في وقت واحد أنا وسواي: أنا، لأن وجود الصورة رهن تماماً بوجودي، وسواي، لأن المرآة لا تُعْدَم تأثيراً على هذه الصورة، فهي تفرض عليها حدودها وتقصيراتها. إن الله يتجلّى في ظهورات، لكنّ كل ظهور إنما هو محض شكل محدود لملمحٍ من ملامح الله، وهذه التجلّيات ليست انتقالاً من اللاوجود إلى الوجود، بل هي مجرّد مكانٍ لظهور ذلك الذي هو وحده الوجود.
يتوقّف الأستاذ الباحث في مقارنته عند تباينات في وجهتي النظر بين الشيخ الأكبر واللاهوتي الدومينيكاني، وأحد أمثلتها إيراد الثالوث الأقدس (الآب والابن والروح القدس) كأحدِ أسماءِ الله، بينما لا وجود لمثل ذلك، بالطبع، عند ابن عربي. غير أن وجود مثل هذه التباينات لا ينطوي، في نظر الباحث، على اختلافات عميقة، بل، بالعكس، ثمّة توافقات من المدهش وجودها، مثل قضيّة «انبثاق الكلمة في الروح» العزيزة على قلب إيكهارت، والتي تُعتبر موضوعاً مسيحيّاً باختصاص. ويلاحظ الباحث عند ابن عربي موضوعاً مماثلاً هو «نزول القرآن في القلب»، إذ يكتب الشيخ المفكّر: عندما ينزل القرآن في القلب فإنما ينزل معه ذاك الذي كان القرآنُ كلمته. قال الله إن قلب عبده المؤمن يحويه هو، وبحلول القرآن في قلب المؤمن يصير الحلول الإلهي في القلب.
ويتحدث ابن عربي عن «الإنسان الكامل» ويتحدث إيكهارت عن «الإنسان النبيل»، كما ترد صفة الشرف في حديث ابن عربي، إذ يحدد شرف الإنسان بوجوب «عودته إلى حال اللاوجود»، أي الحالة الأصليّة للحضور في الله التي لم يغادرها في الواقع إطلاقاً ولكنْ حجبها عنه شعوره الواهم باستقلاليّة وجوده.
ويكتمل الشرف عند ابن عربي في ما يسمّيه «الفقر» أو «العبودة». أما إيكهارت فيرى أن «الإنسان يستعيد في هذا الفقر الوجود الأبدي الذي كان عليه، والذي هو عليه الآن، والذي سوف يظلّ فيه إلى الأبد». عبارة يرى الباحث أنها كان يمكن أن تكون لابن عربي.
وعن كلمة «عبودة» تقول الدكتورة سعاد الحكيم في موسوعتها الممتازة «المعجم الصوفي ـــــ الحكمة في حدود الكلمة» إن ابن عربي «ميّز بين العبوديّة والعبودة، كما فعل من قبله حكيم ترمذ»، وتوضح: «العبوديّة هي «نسبة» إلى صفة الافتقار والتذلّل الذاتيّة في العبد، فالعبوديّة هي نسبة إلى «الصفة» من دون النظر إلى شخص «السيد»، أو بمعنى آخر هي نسبة ذاتيّة بين العبد وصفة العبوديّة فيه، لا تؤدي مفهوم «العلاقة» الكائنة بين موجودَين (عبد ـــــ سيد)». أما العبودة فتشرحها بالقول: «هي نسبة العبوديّة إلى «السيّد» الذي هو هنا «الله»، ولذلك فإن صفة العبودة هي للحقّ أكمل».
ويتوقف المرء مع ابن عربي أمام ما قاله في «الفتوحات» على لسان الله: الذي يراني ويدرك أنه يراني لا يراني.
ماذا إذاً عن رؤى سائر المتصوّفين؟ والأنبياء والقدّيسين؟ وعن بسطاء الناس الذين يؤمنون بأن بعض أهل السماء تجلّى لهم، ويذهبون في وصف ما شاهدوه وما سمعوه مذاهبَ تفصيليّة، ومنهم مَن بُني على شهادته تكريس تاريخي، أو مَن أصبحت شهادته جزءاً من تراث «المعاينات» الماورائيّة؟
قال الله دوماً لمخاطَبيه إنه يأبى معاينتهم له. هذا ما قوّلوه إيّاه. موسى وقَبْله. كأنه أعظم من التجسّد ولو في حدود الخيال. إنه الوجود لا الموجود، أو الوجود الذي لا يحتاج بتاتاً إلى الاستعانة بأي عنصر مادي للإشعار بوجوده. التجريد الأقصى، وإلى هذا، الحضور الأقصى. اللامحسوس والملء. بلا حدود.
... إلّا حدود الشعور. القلب والخيال. هَلَع الإنسان من برود الحياة وخروجه من شروطه. كثيرون في حالات كهذه يشطحون ويشاهدون ما لا نعرف. الصلاة تقود. الدعاء. الارتماء خارج العقل المذعور، في خضمّ الوجوه النيّرة.
مشاهدات، بل علاقات تبدو حيالها الفلسفة معادلات جليديّة.


مفتاح القَدَر
(القصّة واقعيّة)
كان الباب مُغْلقاً، ومفتاحه في جيب الرجل، والرجل تائهٌ في الشارع، ممزّق بسكّين الخفّة، خفّةِ امرأةٍ معبودة، مكروهة، جنّية لا تعرف ابتسامتها الهزيمة.
كان الباب مُغْلقاً والرجل والمفتاح في التيه، بعيداً.
والرجل عازم على الانفصال. والطوفان غَمَر الأرض.
وجاءت المرأة من بيتها إلى بيته وطرقت الباب، فلم يجبها الرجل.
الرجل الهارب من عذابه، الغائص في عذابه، الذي قرّر أن لا يعود.
وظلّتْ تطرق الباب الذي ظلّ مغلقاً، فلا أحد في الداخل، ولو النورُ مضاء.
وانتظرتْ. لن تذهب قبل أن تراه.
وكلما أمعن الرجل الممزّق في الهرب، أصرّتْ هي على العودة.
وظلّت تنتظر.
وفجاةً سحبتْ من حقيبتها مفاتيحها، مع أن مفاتيحها هي لبيتها، وبيتها في بلد آخر، ولا يُعقل أن تصلح لهذا البيت.
جرّبت المفتاح الأوّل فلم يَفْتح، والثاني فلم يفتح، أمّا الثالث فقد دار في القفل بصعوبة ولكنّه فتح الباب.
ولما عاد الرجل الممزّق وجد بابه مفتوحاً والمرأةُ في البيت تنتظره جنّيةُ ابتسامتها التي لا تعرف الهزيمة.