برج البراجنة ــ قاسم س. قاسم أربعة عشر عاماً. هذا هو كل عمر أحمد علي يعقوب. رحل أحمد دون أن يكملها حتى. كل ما كان يفعله، هو مساعدة خاله في نقل أكياس الرمل. رحل الفتى لأنه ابن المخيم الفقير، ابن بيئة تختلط فيها أسلاك الكهرباء بخراطيم المياه، بخفة من لا يقيم وزناً لمن يهددهم خطر هذا الخليط المرعب. رحل لأنه عندما يجتمع نقيضان مثل الماء والكهرباء، فإن الموت سيكون حتماً ثالثهما. هكذا، رحل «وحيد البيت» بسبب التقاء الأضداد في جسده النحيل. هناك في حي الوزان، ارتعش جسده ارتعاشته الأخيرة، حين كان يحاول أن يتسلق الشاحنة لكي يزيل سلكاً كهربائياً أفلت من عقاله وعلق بها. لم يدرك الصبي أن الشاحنة، كانت بكاملها مكهربة، لأن الشريط كان «مزلطاً»، وما إن أمسك بقضبانها يتسلقها، حتى أمسكته الكهرباء في قبضتها وأخذ جسد الفتى ينتفض في عراك الروح الأخير، على مرأى من الناس. حاول أحدهم إنقاذه لكنه «تكهرب لأن البيك آب والأرض كانت عم تكهرب»، كما يقول خاله المفجوع نظيم الديراوي. لم تتركه الكهرباء إلا عندما شبعت منه، فرمته بعيداً عن بركة الماء التي كان واقفاً فيها، طرحته أرضاً لتسيل من أنفه نقطتا دم معلنة وفاته. حُمل الجسد إلى المستشفى، حاولوا إنعاشه بصدمات كهربائية. لكن كيف تنعش الكهرباء قلباً أطفأت هي نوره؟ قد يقول أحدهم ما حدث قضاء وقدر أو «خلص عمره». لكن من بداية العام الحالي حتى الآن «خلص عمر» ستة أشخاص بسبب الإهمال ولن يكونوا هؤلاء الستة آخر العنقود.
تدخل قاعة «العزا»، تجلس سيدة بين يديها صورة لأحمد، إنها أمه الثكلى. حولها نسوة ينتحبن، وأخوات يبكين على أخيهم الصغير. لم تتوقع أم أحمد أن تفقد وحيدها باكراً. «تركني بالمطبخ بعد ما جاب لي غراض» تقول. تكمل قصتها وهي تمسح صورة ابنها. «كنت عم بطبخ، فانقطعت الكهربا رحت لأرفعها بتخبرني جارتي انهم قاطعينها كرمال في عامل سوري مات بالكهربا». لم تعرف أم أحمد أن العامل السوري المفترض هو ابنها. تكمل حديثها بصوتها المتهدج، «وقفت إتحدث مع جارتي لحد ما إجت سلفتي تخبرني انو أحمد مات». هناك سقطت الوالدة على الأرض حملوها للمستشفى لترى ابنها. «شفتو، ضميتو على صدري، فتحلي أحمد عيونو». تسكت قليلاً ثم تخرج ما كان يعتمل قلبها من حزن دموعاً وهي تتأمل صورته. أما والده فهو لا يعلم ما يجري من حوله، يجلس صامتاً، يتقبّل التعازي، يومئ برأسه للمعزين. يعترف علي يعقوب بأنه «مش مركز». يسألك «مزبوط إبني مات»؟ يبكي الرجل بصمت لمعرفته المسبقة بالجواب. اتهم أهل أحمد اللجان الشعبية في المخيم بالتقصير والإهمال. فطالبوها بالتحرك لمدّ الأسلاك الكهربائية وخراطيم المياه تحت الأرض. أما اللجان الشعبية في المخيم فإن «مثل المشروع كبير علينا لأنه يكلّف الملايين ونحن لا نملك هذه الكلفة» كما يقول أمين سر اللجنة، من تحالف القوى، أبو وليد العينين. أما الحل الأنسب لهذه المشاكل فهي كما يقول «التعاون بين سكان المخيم واللجان الشعبية لتنظيم إمداد الأسلاك الكهربائية». تترك المخيم وجدرانه التي امتلأت بصور أحمد التي كتب عليها «كان لي حياة، كان لي مستقبل».


قضاء الفقراء وقدرهم؟

عرف سكان برج البراجنة خلال حرب تموز عام 2006 ابن مخيم البرج محمد ياسين الملقب بـ«اللقلوق». أيام الحرب كان ياسين يخرج على متن دراجته النارية يجول على أهل المنطقة يسألهم عن حاجياتهم التي يمكن توفيرها لهم من المخيم. فكانوا ينهرونه «ليش عم تخاطر بحياتك مش عارف عم يقصفوا الموتسيكلات فوت على مخيمك». وكان جوابه الدائم لهم «يلي بيعيش الحرب وما بموت فيها ما بتقتلوا شدّي، وأنا لسّا ما متّش» يقول. في 14 آب انتهت الحرب، وفي 16 آب وصل خبر وفاة محمد ياسين لأبناء المنطقة أنه «تكهرب» وهو يحاول أن يصلح عيار المياه.