ضحى شمس“أحضره طفلاً وخذه عبقرياً”، تقول اللافتة الجديدة المعلّقة في فضاء الشارع. أي هاتوا أبناءكم كما هم: أطفالاً عاديّين، وخذوهم من مدرستنا، التي تتبع منهاجاً يابانياً في تعليم الحساب، عباقرة. تبقى اللافتة “مضيئة” في ذهنك، مستفزّة شيئاً لا تدركه فوراً. لمَ يريد جميع الناس أن “يطلع” أولادهم عباقرة؟ أصلاً، كلنا عباقرة في نظر أهلنا! لا يطمح الإنسان إلى أن يكون عبقرياً. العبقرية هي حالة، كلّ منا يمر بها بنسبة أقل أو أكثر. هي لحظة تجلٍّ تتوّج مسار اجتهاد وبحث وتعمّق. تنمّي خلال درسك مسألة ما حسّاً نقدياً يرفض المألوف، فتصل في مرحلة متقدمة إلى فكرة خارجة عن المألوف، لمعة، ما كان اسمها كذلك لو لم يتوافر حولها عتم، سواد، يبرزها. العبقري صفة تمنح لشخص من أجل لحظة، أو لحظات، من حياته. تأمّل أرخميدس ودرس كثيراً، قبل أن يهتف “وجدتها”، وهب إينشتاين حياته ليخرج بنظرية النسبيّة. لو كانت العبقرية تدرس، لأجبر أهل السلطة “عباقرة” زمانهم على تدريس أولادهم وورثتهم “العبقرية”، ولكنّا في نعيم وثبات و“خلفنا صبيان وبنات”. لكن، في رأيي، العبقرية الحقيقية هي في ابتداع اليومي بما يجعلنا نرغب في الاستيقاظ ليوم آخر. فإن أراد كل الناس، وكل الوقت أن يفعلوا الأعمال الخارجة عن المألوف، فمن يكمل اليومي؟ من يكمل الحياة؟
“النبي يوسف” بين الصورة والسورة
سورة يوسف استثناء في القرآن الكريم. ففيها كثير من الحياة العادية: جمال بشري خارج عن المألوف، سيدة تراود شاباً عن نفسه، ونساء يلُمنها فتدعوهن ليشاهدنه ويعذرنها... إخوة يغارون من تفضيل أبيهم الأخ غير الشقيق، فيحاولون التخلّص منه، منام يوسف..كأنه فيلم. بعدما توجّست بدايةً من إخفاء وجهه، كما فعلت “المنار” بمؤدّي أدوار الأنبياء في مسلسل “مريم المقدسة”، فجعت، بصورة يوسف المسلسل الإيراني. فالممثل الذي افترضناه استثنائيّ الجمال ليفوز بدور أجمل الأنبياء، كان خيبة أمل كبيرة.
لا بل إنه كان خيبة كبيرة منذ “طفولته”، في المسلسل. فالصغير سمين، تدلّ إمارات وجهه على طفل شره، رخو، يهفو قلبه إلى المطبخ أكثر من الروحانيات! فمن سيصبح نبياً عندما يكبر، يفترض أن له مشاغل فكرية تجعل جسده مشدوداً، مشرئبّاً كسؤال يترقّب جوابه.
أما حين “كبر” فمن قال إن هذا الشاب جميل؟ هل يكفي كبر العينين وغلظة الشفتين واستدقاق الأنف ليكون المرء جميلاً؟ هكذا، كان ثقيلاً على قلبي تجواله من حلقة إلى أخرى واثقاً بتأثيره. كان يمثّل بثقة من يعرف السيناريو، وما الذي سيحصل لنساء المسلسل في الحلقات التالية! ما حوّل مشهد تقطيع نساء مصر اللواتي دعتهن زليخة، لأيديهن لدى دخوله عليهن بسكاكين كنّ يقشرن بها الفاكهة، إلى مشهد كاريكاتوري.
أهم من السخط على الكاستينغ، يبعث فيك المسلسل، بخلاف السورة القرآنية، إحساساً بالثورة ضد تمييز يعقوب النبي، لابنه يوسف وشقيقه بنيامين عن “الأحد عشر كوكباً”، إخوته من أمهات أخريات. تسبّب تمييز يعقوب للطفل يوسف، حتى ما قبل منامه الشهير، ومعرفته بولايته النبوية، بإرساء مشاعر بالظلم واللّاعدالة لدى إخوته ولدينا كمشاهدين. لم يقنعنا المسلسل بأحقيّة ذلك التمييز. وكلما أمعن في التفسير، كان قلبي يذهب إلى أولئك الإخوة العاديين، “غير الوسيمين”، الفقراء المشعّثي الشعر، المتآكلي القلوب غيظاً من تمييز أبيهم لأخيهم، حتى فكّروا في قتله. كانوا يتحرّكون، إمعاناً في نكران المسلسل لتميّزهم، كتلة واحدة تكاد تحمل اسم: أولاد يعقوب العاديين. فيما كان يوسف يتنقّل نجماً مطمئنّاً وحده، تتبعه، إلى عيون المشاهدين، قلوبهم كما افترض المخرج. كانوا بشراً، مثلنا. فتماهيت معهم. ونفرت من “يوسف”، الأشبه بأيقونة إعلام بروباغندي منتصر.
أما الطامّة الكبرى؟ فجاءت في الحلقتين الأخيرتين المسيّستين بمعانٍ تخدم فكرة طاعة ولاية الفقيه العمياء. لكن الأخطر من هذا التسييس، في رأيي، تسفيه شرعية الشعور الطبقي، من جهة، وترويج التمييز الإلهي لبعض البشر، وهو أمر يذكّر بقوة بأدبيات إسبارطة اليونانية، و“شعب الله المختار”، وهتلر، واليابان الإمبراطورية.
أما الأكثر إثارة للغيظ فهو المشهد الأكثر انتظاراً: لقاء يوسف بوالده بعد عقود من الفراق. فبدلاً من أن يكون اللقاء حميماً، حرص يوسف، الذي أصبح عزيز مصر، على أن يستبق لقاء والده بـ... عرض عسكري لقواته المسلحة! أي إنه في اللحظة التي هيّأنا لها “محارم” الكلينكس، وفيما كانت عينا يعقوب العجوز المنهك من الشوق، تبحثان في الأفق عن ولده، كان الأخير يترك آلاف الجنود وأهالي المدينة (تخيّلوا الوقت الذي يستغرقه عبورهم) يسبقونه، تدليلاً على “النجاح” الدنيوي الذي وصل إليه الابن، الذي يستنتج منه... عظم مقامه الروحاني! وبعدما أنهى عرض عضلاته كأي ثريّ محدث، ظهر يوسف العبقري، الناجح، المتناسق التقاطيع، وسط كوكبة من الفرسان. لم ينفع تعثّره مرات عدة وهو يخفّ للقاء والده بتبديد نفورنا، خلص، كنا قد بدأنا بالضحك، والضحك كما تعلمون ليس سمة المتعاطفين.
■ ■ ■
كل الناس يرون أولادهم عباقرة. ويريدون لهم الأحسن. كل السؤال هو ما هو “الأحسن”؟ أن يعيش أطفالنا براءتهم؟ أم أن ندمّرهم بنموذج عسكري للنجاح؟.
■ ■ ■
“قالولي البلابل صبحية/ هالحقول وساع/ والدني بتساع/ نيال اللي بيرجع عشية”، قال عاصي الرحباني في أغنية “القمر بيضوي عَ الناس”. أليس هذا الكلام أجدر بالأنبياء من “عبقري” المسلسل، يوسف النووي، أكاد أقول؟