حسن خليلتوجّه زائر عربي إلى منطقة سياحية نائية في تركيا تُدعى دلمان، فوجد مطارها يعجّ بالسيّاح، بمن فيهم لبنانيون، ومطارها ثلاثة أضعاف حجم مطار رفيق الحريري «الدولي».
بعد شهر، توجّه إلى البرتغال، وتحديداً إلى منطقة «Algarve». استفسر هناك عن العلاقة بالحضارة العربية، فقيل له إن كلمة البرتغال هي نسبة إلى فاكهة «البرتقال»، وإن منطقة الـ Algarve هي نسبة إلى «الغرب» (رديف الشرق). واسم المنطقة التي سكن فيها «Almancil» هي نسبة إلى كلمة المنزل، وتعددت الأمثال حتى دمعت عيناه. قال: كنا هنا من قبل، إذ وجد البرتغاليين يفتخرون بارتباطهم بالتاريخ العربي، بينما بات هو يخجل من حاضره، وربّما ـــــ إذا استمرت الأمور على هذا المنوال ـــــ من مستقبله.
عند إنشاء الاتحاد الأوروبي، تشكّك العديدون في إمكان تقيّد إيطاليا وإسبانيا واليونان والبرتغال بالمعايير المالية والاقتصادية والاجتماعية للمجموعة الجديدة. بكى الزائر حينما شاهد بأمّ عينه الريف في تلك الدول، التي كانت تُلقّب بـ«خنازير أوروبا»، أنظف من عاصمته العربية. قال في نفسه: يريدونني أن أفتخر بتاريخي العربي نصف المزوّر. ماذا عن حاضري ومستقبلي؟
عن أية سياسة يكتب؟ عن سياسة ترويض بعض المجتمعات العربية لتصبح متسوّلة دوماً أمام طويلي العمر، وإلا جاعت. أيكتب عن الفلسطينيين واللبنانيين الذين سئموا من صناديق إعادة الإعمار بعد حروب أسهم بعض أهلهم في التخطيط لها. صندوق لإعادة إعمار غزة، وآخر للبنان، وهيئات إغاثة اللاجئين. هل يكتب كم هو معيب أن يكون في العالم العربي جائعون ومظلومون ومقهورون، بينما ترتفع ناطحات السحاب تحت شعارات العمران والفورة العقارية؟
هل يكتب عن مجتمع ما زال ينتظر الفتاوى الدينية بشأن إهداء الزهور للمريض في المستشفى أو استعمال المرأة للإنترنت بدون محرم في زمن دخل العلم إلى تفاصيل التركيبة الجينية للبشر؟
هل من مواطن عربي يعرف أسماء رؤساء وملوك وقادة مظفرين للمغرب العربي؟ طبعاً لا، لأن كلاً منهم اعتمد نظرية «أنا أولاً» الدارجة أخيراً، وغادروا العالم العربي. الصومال وموريتانيا وجيبوتي وجزر القمر دخلت المجتمع العربي كجزء من التاريخ لا الحاضر أو المستقبل. المفهوم العربي قائم أصلاً على التاريخ عكس نمط الاتحادات الحضارية القائمة على دروس التاريخ لتأسيس حاضر ومستقبل.
لم نعد نعرف إن كان النفط نعمة أو نقمة. صحيح أنه وفّر فرص عمل لملايين البشر في المحيط العربي، لكنّ رأسمال النفط أصبح في السياسة مموّلاً لهيئات الدعم والإغاثة بدل أن يكون عصب حركات التحرر واسترجاع الحقوق. لم يعد أصحاب الرساميل يخفون شعورهم أو يستحون به.
يتوجسون من الطمع المستمر بهم. ذكريات عبد الناصر والسادات مع السعودية، وصدام حسين مع الكويت غير بعيدة عنهم. سياستهم موحّدة في ما يتعلق بالأمن القومي: «نحن نؤمّن النفط والنفوذ في المنطقة للقوى الكبرى، مقابل الحماية لنا (طبعاً من الخطر الإيراني، لأنه لا أخطار أخرى تحيط بنا). فلسطينياً ولبنانياً لا نستطيع أكثر مما فعلنا، وكل تنظير علينا أننا لا نفعل كفاية، مرفوض. كفى أننا نوظّف الملايين من العرب لدعم الاقتصادات. لكن ماذا عن مجلس التعاون الخليجي والعملة الموحدة؟ هل من إنجازات أبعد من إلغاء تأشيرات الدخول؟
هل يُكتب عن قنوات تلفزيونية دينية، العشرات منها تستصرخ لنهضة أهل السُّنّة من هنا وكربلاء مستمرة من هناك، في الوقت الذي بات فيه الجيش الإسرائيلي على باب المسجد الأقصى، إلا إذا كان هو غير المسجد المذكور في القرآن الكريم. جدال عقيم بشأن حجاب المرأة وشعر المرأة وتجميل المرأة، عدا عن هدر دم من هنا وهناك، بينما الاختراع والإنتاج في الطرف الآخر من العالم. الكل يتهكم بما يُشغل به هذا المجتمع المتخلّف الاستهلاكي المبطر الفاسد العقيم المنقسم العشائري القبلي.
هل يكتب عن لبنان الذي أصبح تفصيلاً في المشهد العربي، مجتمعه متسوّل قائم على العطاءات؟ اقتصاده غير منتج. ماليّته تستنزف ضمن توزيع الحصص. يتعلق أهله باجتماع سوري ـــــ سعودي، ثم يتشاءمون لغياب بروز إشارة خارجية تجاه شعب ومجتمع أصبحا مقعدين واتكاليين في العيش والسياسة.
أما غزة وفلسطين، فكارثة الكوارث. فريق يُشرك في التخطيط لحرب غزة، فيُضطر لاحقاً تحت ضغط الابتزاز في التآمر إلى تأجيل النظر في قرار يدين إسرائيل بجرائم حرب. أيكفي جلد الذات؟ أما من معتصم جديد؟ لقد كُتب عن حال الأمة مجلّدات، ويمكن كتابة مماثلة للمخارج والحلول. فالعرب بشر، وواقعهم مرّت به مجتمعات أخرى في سياق التطوّر. إذاً ما المشكلة؟ التاريخ عبارة عن أحداث، لكن ما يصنع الفرق فيها هو رجالاتها. صلاح الدين الأيوبي الكردي غيّر مجرى الحملة الصليبية على الشرق، وشارل ديغول وضع أسس مستقبل فرنسا، كما فعل سلباً أدولف هتلر في ألمانيا. مهاتير محمد نهض بماليزيا الإسلامية إلى مصاف الدول المتحضّرة الأولى، وكذلك يفعل رجب طيب أردوغان الإسلامي الوارث من كمال أتاتورك العلماني. إذاً، يبدأ شعاع الضوء بظهور رجال قادة يبادرون ولا ينتظرون فقط توصيات أولياء الأمر.
لعلّها تكون صحوة قبل أن ترتفع أصوات قديمة مجدداً لتقول إن الغرب هو من اكتشف النفط وهو من يكرره وهو من يستهلكه، فلماذا لا يحق له استملاكه للأمن الغربي العالمي، بدل تركه مع القبائل؟