نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

من المثير رصد التغيير الذي يحدث أمام أعيننا لأحد أهمّ أصعدة الصراع حول فلسطين، عنيت الصعيد العالمي، وتحديداً منه ما يحرّك التضامن الأممي مع النضال الفلسطيني. فطبعاً، من المثير دوماً رصد لحظات الانعطاف (حول أيّ شيء) أثناء تبلورها، سعياً لاستنطاقها، والاستدلال بها على وجهة الواقع، لا كما يعبّر عن نفسه «رسمياً»، ووفق التأويل السائد له، وإنما بما يختزنه من احتمالات يتعيّن من ثمّ التقاطها وحملها نحو التحقّق. إنه النقاش القديم حول «الحتمية»، القائم في الفلسفة والأديان والأفكار السياسية على السواء، ومنها نسخة مبتذلة من الماركسية. وهو كان في نهاية المطاف يبرّر ويشرعن هبوط الواقع نحو أسوأ احتمالاته، بدعاوى الواقعية الموضوعية، واعتبار ما عدا القبول بذلك «إرادوية»، وإدانتها كرومانسيّة بلهاء محلّقة في الفضاء، تتحول إلى قسر مريع ما إن تهبط على الأرض.
ومثير ثانياً، لأن المسألة الفلسطينية واحد من أكثر المواضيع امتلاكاً لمعانٍ تتجاوز نطاقها الخاص. ولولا خشية المبالغة لقلت إنه يمكن عبرها نمذجة المعطيات التي تتحكم بالاجتماع الإنساني اليوم: المعطى الاستعماري، وذاك العائد إلى العنصرية، والآخر الذي يثير مسألة أسس القانون الدولي، وحقيقة وجود حقوق شاملة، واختلاط الدين والميثولوجيا والسياسة، وقوة رواية التاريخ، وأثر الإعلام... وهي، هذه الخاصية، ما يجعل للمسألة الفلسطينية حضوراً يخاطب الناس في أركان الأرض الأربعة، ويحفز تماهيهم معها، مما لم تمتلكه قضية أخرى، رغم اتساع وعمق حركات نضالٍ «ضد» هذه أو تلك من الأمور، أو حركات تضامن مع قضايا عادلة.
أما التغيير المشار إليه، فعنوانه ولادة الحملة العالمية لـ«مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، ومعاقبتها». صحيح أن النداء وجّه من قبل الجمعيات الفلسطينية إلى العالم في تموز/ يوليو 2005، وصحيح أنه تبنّته مذّاك مجموعات هنا وهناك. ولكن الجديد الحاصل اليوم هو تحول هذا النداء إلى إطار يثير فرزاً وإعادة تكوين داخل حركة التضامن العالمية الكلاسيكية، كما يولّد ديناميات جديدة.
بل إن خصائصه الذاتيّة باتت قابلة للالتقاط، ومنها أنه لحظة نادرة من تبلور توافق فلسطيني داخلي، أغلبي أو واسع النطاق إلى حدّ معبر، ومتجاوز للانتماءات السياسية والفكرية. وأن هذا التوافق يتم حول استراتيجيا عمل لا حول إعلانات سياسية عامة ومبدئية فحسب. وتلبية هذه الضرورة تمثّل بالتأكيد ارتقاءً في الوعي الفلسطيني، وفي تطلّب الفعالية على حدّ سواء. وهي بذا تقدم خريطة عمل للفعاليات المختلفة من أجل فلسطين في العالم، تجعلها تصبّ في إطار واحد، مولّدة ما يمكن تسميته «حركة».
وكذلك، فإن من أهم سمات هذه الظاهرة أنها تطمح إلى استعادة تحكّم الفلسطينيين أنفسهم بتعريف المسألة الفلسطينية وكيفية نصرتها. وهذا عدا إلغائها لاستلاب خطير، وفريد، يوفر لمن ينضوي في هذه الحركة تبنّي المطالب الفلسطينية كما يعبر عنها أصحابها، والاندراج في تنسيق عملي وتنظيمي مرجعيته هي ذلك الإعلان الصادر عام 2005 و«لجنة المقاطعة الوطنية» التي شكّلها. وقول ذلك لا يتغافل عن الصعوبات والعقبات القائمة، ولا عن عوامل التفكك البالغة الحضور في الوضع الفلسطيني، التي غالباً ما قضت على أفضل النيات، محوّلة الأمر إلى تشرذم وتنافس وصراعات صغيرة لا تنتهي. ولكن الفارق الذي قد يفعل فعله هذه المرة في حجز هذه الوجهة وتعطيلها هو وجود تلك الاستراتيجيا العامة المتبلورة، كما بروز الحاجة الموضوعية لتخطي نتائج انهيار «عملية السلام» التي تحكم أفقها بالوضع الفلسطيني منذ 1993 على الأقل. إذ إن حملة المقاطعة تقول إن الخلاف اليوم لا ينتظم حول الحلول السياسية الممكنة للقضية الفلسطينية، وإنه، إذا ما تم الاعتراف بانعدام وجود هذه الحلول في الوقت الراهن، يصبح الموضوع هو كيفية إبقاء الصراع حياً، عبر صون المسألة الفلسطينية من التصفية، وهو خطر يتهددها سواء عبر تطلب الاستسلام التام كما تعبّر عنه بأشكال مختلفة السياسة الإسرائيلية، أو عبر ما سمّاه ليبرمان خطة «إدارة الصراع» الاستنزافية. كما يفترض إبقاء الصراع حياً تحقيق تقدم في توازن القوى القائم حالياً، بدءاً من تثبيت توصيف طبيعة إسرائيل وحتى تحقيق إدانتها. وهو صعيد سياسي ـــــ قيمي حاسم الأهمية، لعلّه يفسر الانفعال الهائل الذي أثاره تلاعب السلطة الفلسطينية بتقرير غولدستون على سبيل المثال.
ولذلك كله ملامح جليّة تظهر في أكثر من مكان. ومنذ يومين تحديداً، انعقدت بمدينة مونبلييه الفرنسية ندوة عامة، غايتها الأولى التباحث في كيفية التصدي لتحويل أحد مرافئ الصيد في المنطقة إلى بوابة أوروبية لاستقبال وتوزيع منتجات شركة الزراعة والتصدير الإسرائيلية «أغرسكو». فاق نجاح الندوة توقعات منظّميها، ولكن مشاركة منسّق «لجنة المقاطعة الوطنية» الفلسطينية، ومسؤول تنسيقية نقابات اسكتلندا، ممثلاً هذه والنقابات البريطانية عموماً التي صوّتت جميعها بالموافقة على حملة المقاطعة، وموفدين من إيطاليا ومن بلجيكا، وكذلك على المستوى الفرنسي مشاركة مسؤول النقابة الفلاحية، ونقابة عامة وطنية كبرى، وجمعيات لم تلتق بمثل هذا الزخم حول فلسطين منذ زمن، حوّل الاجتماع من غايته المحدودة ظاهراً إلى ورشة عمل عبّرت نقاشاتها، وما رسمته من خطط وما أنتجته من تنسيق، عن كل الخصائص المذكورة هنا. بمعنى أن هذا التحليل قد اختُبِر، مجدداً، عملياً!