strong>ناهض حتر*
أنا ممتن لسيف دعنا (الأخبار، 9 ت1 2009) إلحاحه على حوار في العمق معي بشأن خطاب حزب الله وما يسمى «الإسلام الثوري»، ما يسمح بتوضيحات أراها ضرورية. حتى الآن، فإن أحداً من الذين تصدوا لي، هجوماً أو حواراً، تجاهلوا أن ما نقدته من مواقف، لم أدّعها ولم أنقلها عن مصادر مشبوهة، بل أخذتها من كلام حسن نصر الله نفسه، وهي: 1) اقتراحه التعايش بين المقاومة والكمبرادورية، 2) تسويغه لتورط الحزب، ولو جزئياً، في فضيحة التوظيفات المالية للحاج عز الدين، وتهوينه خسارة 400 مليون دولار من ادخارات الأسر المغرَّر بها، واستنكافه عن إدانة ثقافة التربّح النيوليبرالية، 3) تبرئته عبد العزيز الحكيم، شيخ العملاء والجلادين والفاسدين والانفصاليين في العراق، وتسميته مجاهداً.
ولا بد لي، هنا، من الاعتراف بأن الدكتور سيف دعنا قد أسعفني من حيث لا يريد، بتفسير سوسيولوجي فعّال يدعم وجهة نظري، حين قال «إن جزءاً من تعقيد حالة حزب الله أنه يخوض عملية تحرير مزدوج، رفع المظلومية والاضطهاد عن جماعة اجتماعية مضطهدة عبر التاريخ، وفي لبنان فشلت التجربة الوطنية السابقة في القيام بها، وقيادة عملية تحرير المجتمع ككلّ.المضطهَد (بفتح الهاء) هو الأكثر أهلية لقيادة مشروع التحرير، وتحريره ليس فقط تحريراً للمضطهِد (بكسر الهاء) أيضاً، بل للمجتمع ككل».
وقد استعدت هذه الفقرة كاملة لأنها، من وجهة نظري، تمثّل جوهر مقالتَيْ دعنا في الرد علي، وتمثّل، في الوقت نفسه، بيت القصيد في وعي المثقف الشيعي اللبناني الملتزم بحزب الله. وسنترجم ما يقوله دعنا إلى لغة صريحة لا تمويه فيها:
1) حزب الله هو، في الأخير، مشروع تحرير الطائفة الشيعية اللبنانية من الاضطهاد الذي لحق بها من النظام اللبناني المرتكز على تحالف الكمبرادور المسيحي والسنّي. وقبل حزب الله، فشلت الحركات التحررية السابقة، من القوميين والشيوعيين والمنظمات الفلسطينية، عن إدراك هذه الحاجة الاجتماعية ــــ السياسية المشروعة فعلاً. وهنا، نتفق مع دعنا، ونستذكر أن أول شرارة وعي بهذه الحاجة أطلقها الإمام موسى الصدر، مستنيرة واجتماعية صريحة وتسامحية وإنسانية ومقاومة، ثم انحرفت إلى الميلشياوية والكمبرادورية بعده، في حركة أمل. ما أطلق الدعوة مجدداً، من دون التنوير الصدري، ولكن بفعالية ونجاح، على أيدي حزب الله، في نزعة سلفية رجعية أولاً، كان لا بد منها لإلغاء التعدد السياسي لقوى المقاومة المسلحة في الجنوب، انتقالاً لتأسيس مقاومة مذهبية مؤسسية موحدة على أيدي قادة أعلاهم شأواً حسن نصر الله الذي واءم وماهى، بروح وثّابة، بين تحرير الطائفة وتحرير الجنوب، وبالتالي تمكين الطائفة من إنشاء حكم ذاتي فعلي (ليس معلناً بالطبع) في مناطقها، من الجنوب إلى الضاحية. ومن المفهوم أن الحفاظ على هذا الانتصار الإلهي ــــ الطائفي لا يمكن استمراره من دون دمجه في تطوير المقاومة ضد إسرائيل إلى أيديولوجية كاملة، من شأنها الحفاظ على شرعية سلاح الطائفة وكانتونها. وقد تطابق هذا المنحى تماماً مع الاستراتيجية السورية للقتال خارج الأسوار، ومع الاستراتيجية الإيرانية للتمدد الإقليمي (المشروط بالطبع بتحجيم القوى الإقليمية المعترضة، كل من موقعه واستراتيجيته في التمدّد/ التوسّع، وخصوصاً في العراق الذي تكفّلت به الإمبريالية الأميركية بدعم سعيد من طهران، وإسرائيل التي يمثّل حزب الله شوكة في جنبها).
لم أفعل سابقاً سوى السير في ملاحظة دعنا السوسيولوجية حتى منتهاها وتعقيدات صيرورتها المحلية والإقليمية. وإذا لم نسر بالتحليل ذاك حتى منتهاه، فسنقع في منزلق عنصري مذهبي يفسر المقاومة بالتشيّع، أو نقع في طمس تاريخ عملية احتكار حزب الله للمقاومة اللبنانية، بما اشتمل عليه ذلك التاريخ المسكوت عنه من اغتيالات بشعة لرموز المقاومة ومفكريها اليساريين، وخاصة الشيعة منهم، وعلى رأسهم حسين مروة ومهدي عامل، وهم من خيرة أبناء الشعب اللبناني.
2) وفي نموذج بنيوي وظيفي للتحليل، يتجاهل الفروقات النوعية (الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية) بين الطبقات والعصبيات، ويحلها محل بعضها بعضاً على نحو إجرائي كمّي مرهون باللحظة السياسية، ولا يرتهن للميدان السياسي الذي هو، في النهاية، ميدان الصراعات الاجتماعية، «يستورد» دعنا المقولة الماركسية التي ترى أن الطبقة العاملة، بتحررها، تحرر المجتمع كله. يقول دعنا إن الطائفة الشيعية اللبنانية، بتحررها، تحرر المجتمع اللبناني كله. ولا أريد أن أدخل هنا في سجال نظري مع هذه المقولة الوظيفية غير المنتجة معرفياً، بل أكتفي بالتذكير بأن تحرر الطائفة الشيعية اللبنانية ــــ وقد تم فعلاً على أيدي حزب الله، وفي قتال مع عدو وطني لا في قتال داخلي، مما يضاعف شرعيته ــــ لم ينته إلى تحرير المجتمع اللبناني كله ولم يطرح هذا أصلاً. بالعكس! فهو، في خطاب النصر الإلهي الأكبر، تقدم بعرض صريح للنظام اللبناني للإبقاء عليه ودعمه والاندماج النهائي فيه على قاعدتين: دولة قوية موحدة (للطوائف) عادلة (بينها) ولا يلغي أحدها الآخر، والتعايش بين المقاومة (سر قوة كانتون الطائفة الشيعية) والكمبرادورية (سر قوة كانتون الطائفة السنية).
وفي منحى التحليل البنيوي الوظيفي نفسه، ينسب دعنا لحزب الله حتى كونه «الصيغة الجديدة للقومية العربية». ونستطيع هنا أن نجيب على هذا الادعاء، بكلمتين: إلّا هذه! فخطاب حزب الله ليس قومياً عربياً، ولا يدّعي ذلك أصلاً، ولا يروّج له، بل يتجاهل هذه المسألة عن ذكاء تكتيكي ورؤية استراتيجية معاً. فحزب الله يرى إلى نفسه كحزب إسلامي شيعي مرتبط بمدرسة الإمام الخميني وباستراتيجية الثورة الإسلامية في إيران. وهذه القاعدة الأيديولوجية هي التي أعطته الجرأة للوقوف إلى جانب إيران وحلفائها في العراق ضد عروبة هذا البلد، حيث تجري في هذا الميدان بالذات، المعركة الكبرى العلنية بين الشعب العراقي وحكام طهران وميليشياتهم المذهبية العراقية المتعاونة مع الغزاة الأميركيين. بل في هذا الميدان تجري معركة كسر العظم السرية بين سوريا وحليفها الإيراني.
وأطرف ما يفعله دعنا في محاولة استنتاج ثورية حزب الله، ما يسميه «خطاب العنكبوت». فعنده أن استخدام نصر الله تعبيراً أدبياً قرآنياً في وصف إسرائيل بأنها «أوهن من بيت العنكبوت»، بدلاً من تعبير ماوتسي تونغ في وصف الإمبريالية بأنها «نمر من ورق»، هو «مفهوم» ثوري محلي أصيل مستمد من الإسلام. ومن الواضح أننا هنا بصدد تعبير أدبي لا بصدد مفهوم فكري أو سياسي. ويكتظ القرآن بالتعابير الوصفية والحكم الأدبية التي يمكن استخدامها في جميع الخطابات الفكرية والسياسية. وأذكر، مثلاً، أن أحد ضباط الاستخبارات كان يفتتح تعذيبي في سنة 1977 بالقول «بسم الله الرحمن الرحيم. وما ظلمناهم ولكن أنفسهم كانوا يظلمون. صدق الله العظيم»!!
إن استخدام التعبيرات الأدبية القرآنية في أي خطاب، لا يشير إلى أصالة فكرية ولا إلى مفهوم نظري. فلنضع ذلك إذاً جانباً، فهو مما لا يعتد به لاستنتاج أي شيء عن تظهير مفهوم ثوري إسلامي، أو أي مفهوم سواه على يد نصر الله، مهما كان الأخير بارعاً وملحاحاً في استخدام الآيات القرآنية. أما استناده إلى مواقف شخصيات مهمة من تاريخ الإسلام، فحسبنا أن نسأل لماذا علي والحسين وزين العابدين... وليس أيضاً، العُمَرين، ابن الخطاب وابن عبد العزيز، مثلاً؟ لا بل اسمح لي، يا أخي دعنا، أن أتعدى على شعورك المذهبي قليلاً، وأسأل: ولماذا ليس رجل الدولة الألمعي، معاوية بن أبي سفيان، أو رجال المعارضة الاجتماعية الإسلامية كأبي ذر، أو الشيوعية الإسلامية كحزب القرامطة؟ أم أن تأصيل الإسلام الثوري المزعوم لا يجوز له أن يخرج عن خط مذهبي معين؟
تراث الأمة، لا من نظرة توحيدية فقط، بل من منظور تاريخي موضوعي، هو كلٌّ واحد/ متعدد. وأصالته وغناه ومعناه تكمن كلها في تعدديته. وتعدديته هي ضمان وحدته، وبالتالي وحدة الوجدان التاريخي للأمة في حاضرها السياسي. وفي نظرتنا الشمولية لتاريخ التأسيس العربي الإسلامي، سنرى، بلا تحيّز، أن ذلك التسيّس اكتمل في صراع أربعة خطوط، خط الدولة (عمر ومعاوية وهشام بن عبد الملك وأبو جعفر المنصور والرشيد الخ)، وخط المعارضة السياسية (علي والحسين الخ)، وخط المعارضة الاجتماعية والشيوعية (أبو ذر وسلمان الفارسي والقرامطة الخ)، وخط المعارضة الثقافية (المعتزلة والفلاسفة والصوفية الكبار). وتكمن أصالة تملّك التراث في الحاضر في القدرة المنهجية اللامذهبية في رؤية التكوين العربي ــــ الإسلامي في وحدته الصراعية هذه، لا في التحزب لبعضه واستنطاقه واستجلابه للحاضر. ففي ذلك تفتيت للتاريخ وللحاضر معاً. إن الإنجاز الفكري الكوني في القرآن هو مثابرته على تطوير مفهوم التوحيد الذي أبدعه الشرق وتظهيره وتعزيزه، وشهد انتكاسات شرك أو انسرح في أشكال من الغموض والالتباس في اليهودية والمسيحية الخ. وعدا هذا الخط، فالنص القرآني متعدد، طوى في داخله ثقافة العرب والمؤثرات اليهودية والمسيحية والمزدكية الخ...

تجرأ حزب الله على الوقوف إلى جانب إيران وحلفائها في العراق ضد عروبة هذا البلد

تكمن أصالة تملّك التراث في القدرة المنهجية اللامذهبية في رؤية التكوين العربي ــــ الإسلامي في وحدته الصراعية، لا في التحزب لبعضه
ومفهوم التوحيد، بمعناه الكوني، مهم جداً بالنسبة إلى حركة التحرر العربية، من حيث أنه يتطابق مع ضرورات التوحيد الوطني والقومي والإنساني في الصراع ضد الإمبريالية والتخلف والانشقاقات المذهبية والجهوية والتعصّبات الحضارية. أما في ما يتصل بالصراع ضد الرأسمالية، فقد ترك لنا النص القرآني نزعتين جُمعتا في سورة التوبة، ونظن أن الوحي بهما متباعد، وهما النزعة المسيحية ــــ الشيوعية، كما في التوبة (35): «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون». ولا تنفع كل التفسيرات الرأسمالية اللاحقة في التخفيف من شيوعية هذه الآية. فالضمير في «ينفقونها» عائد عليها، أي على الثروة جميعها، لا على بعض منها. وإنفاقها في سبيل الله لا يمكن تأويله على الاستثمار في مشروع خاص. فسبيل الله هو سبيل المطلق العام الكوني أولاً، كما أن الاستثمار الخاص مآله المزيد من الكنز، فالمزيد إذاً من نار جهنم.
وقد نسخت هذه الآية بأخرى تتضمن نزعة يهودية ــــ رأسمالية، كما في التوبة (103): «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم‏». وتسمح هذه الآية بالكنز والاستثمار مقابل الزكاة تصدقاً على الفقراء في تأسيس لمفهوم العمل الخيري، بديلاً من العدالة الاجتماعية الشيوعية.
وقد ظل الصراع، على المستوى الاجتماعي ــــ التاريخي، قائماً ومستمراً بين معارضة تتمسك بالآية المنسوخة وسلطات تتمسك بالآية الناسخة. ولا يتسع المجال هنا لعرض تاريخ ذلك الصراع.
على أن نسخ آية لا يخرجها من الوحي. ولا يمكن أن يشير (أي النسخ) من وجهة نظر إيمانية، إلى أن الوحي قد أخطأ. ولكنه يشير إلى قبول ضغوط اجتماعية وسياسية راهنة في زمن الوحي. فهي ليست مطلقة إذاً.
والنظرة التوحيدية للنص القرآني هي وحدها الكفيلة ببناء فقه التحرير، بحيث يجري، من بين مسائل أخرى، التمسك بآية الكنز على المستوى العام، فلا تكون ثروة ولا استثمار إلا في سبيل الله، أي عبر الدولة لمصلحة المجتمع كله، بينما تكون الزكاة للعاملين بأجر والفلاحين والمهنيين والحرفيين ممن يملكون مزارعهم ومؤسساتهم الصغيرة شرط قيامهم بالعمل المباشر فيها. وهذا ليس سوى مثال عما يمكن أن يذهب إليه مثقف وطني يريد الارتكاز على الإسلام من أجل نظرية ثورية محلية.
* كاتب أردني