حسام تمام*نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، سيجري في سويسرا الاستفتاء شعبياً على مبادرة لتضمين مادة في الدستور تمنع بناء المآذن، أطلقها تيار في حزب الشعب المسيحي (يميني متشدد) في الأول من أيار/ مايو 2007، معتبراً المآذن لا تمثل مطلباً تعبّدياً بقدر ما ترمز للشريعة التي تخالف في نظرهم القانون السويسري. ووفق هؤلاء، فإن المآذن تمثل السيوف، والقباب ترمز لخوذات المصلين، فيما المصلون هم المقاتلون أنفسهم... وأن الأرض التي بها مئذنة هي أرض للفتح الإسلامي!
ويسمح الدستور السويسري بالاستفتاء الشعبي لتعديل بعض مواده، ولكنه يرهن ذلك بجمع 100 ألف توقيع، وهو ما استطاع أصحاب المبادرة إنجازه بعد جمعهم 113 ألف توقيع.
ما يلفت النظر في الجدل الدائر حول هذه المبادرة هو ردود الأفعال في العالمين العربي والإسلامي، التي اتسمت، على غير السائد في كل الأزمات التي تتصل بقضايا تمس الإسلام ديناً أو هوية، بكثير من الهدوء والتعقل.
ولكي نفهم هذا الوضع الذي يبدو استثنائياً، لا بد من أن نستحضر الإحساس العارم بالغضب والمهانة الذي طالما سيطر على المسلمين في كل الأزمات التي كان طرفها الغرب وتعلق موضوعها بالإسلام. فقبل سنوات، خرجت التظاهرات بطول العالم الإسلامي وعرضه ضد الدنمارك التي أصبحت، وفق عدد من استطلاعات الرأي، في صدارة الدول الأكثر عداءً للإسلام والمسلمين، متساوية مع الولايات المتحدة حيناً، ومتقدمة عليها في بعض الأحيان، بعدما كان ينظر إليها كدولة صديقة أو على الأقل محايدة. حدث ذلك بعدما نشرت صحيفة دنماركية محدودة الانتشار مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام ولشخص الرسول. وما زالت تداعيات الحدث مستمرة بعد أكثر من أربع سنوات. شيء قريب من ذلك تكرر مع هولندا، بعد فيلم مسيء للإسلام، للنائب البرلماني المتطرف خيرت فيلدرز، أصر على عرضه في إحدى المناسبات الدينية الإسلامية. فرنسا أيضاً دخلت في قائمة الدول الأكثر عداءً للإسلام بعدما أصدرت قانوناً يمنع المحجّبات من دخول المدارس بالحجاب، ثم بدأت في طرح نقاش واسع بشأن إمكانية الحظر القانوني للنقاب والبرقع على الأراضي الفرنسية. ولحقت بها ألمانيا بعدما قتل أحد مواطنيها سيدة مسلمة طعناً بالسكين في قاعة إحدى المحاكم التي لجأت إليها السيدة من أجل منع هذا المتطرف العنصري من التعرض لها وإهانتها بسبب حجابها.
كان ردّ الفعل مختلفاً مع حالة المبادرة السويسرية، التي ليس من الصعب وضعها في سياق موجة «الإسلاموفوبيا». وفي أسباب هذا الاختلاف، نرصد جملة عوامل، أوّلها ومدخلها هي الطريقة التي تعرّف بها العالم العربي والإسلامي على القضية المثارة في سويسرا. كان القسم العربي في موقع «سويس أنفو» الإخباري الرسمي هو النافذة الأولى والأهم التي تناولت قضية مبادرة حظر المآذن. وكانت منهجية الموقع وأسلوبه في تغطية القضية مسؤولة كثيراً عن الهدوء الذي قوبلت به المسألة، وخاصة أن الغالبية العظمى من المنابر الإعلامية العربية اعتمدت اعتماداً شبه تام على ما نقلته «سويس أنفو».
كان الموقع دقيقاً في التغطية التي قدمها للحدث. فالمبادرة ليست رسمية بل تأتي من بعض المنتمين للتيار اليميني المتشدد، والمتابعة الخبرية تؤكد باستمرار أن الموقف الرسمي، بل الشعبي العام، هو ضد المبادرة. علاوة على ذلك، لم يتردد الموقع، إبان أزمة الرسوم الدنماركية، في نشر تقرير يحسم موقف الحكومة الفدرالية الرافض للرسوم بعنوان لا لبس فيه: «إثارة مشاعر المسلمين أمر غير مقبول».
وقد أثّرت المقاربة الإعلامية السويسرية الواضحة في التناول الإعلامي العربية الذي كاد يخلو من أي نزعة للإثارة أو التعبئة ضد سويسرا. على سبيل المثال موقف موقع «إسلام أون لاين»، وهو يعد أهم المواقع ذات الطابع المرجعي في مثل هذه القضايا، (ويتصدر المواقع الإسلامية عالمياً). فلو راجعنا ما نشره عن الأزمة، فسنجده يلتزم الدقة سواء في نقل المعلومات أو في التأكيد على أن المبادرة لا تعكس ظاهرة هامة في المجتمع السويسري، كما في قوله إن المؤسسات التشريعية كلها ضده، بل إن المجتمع الحقوقي الغربي ضد المبادرة، كالإشارة إلى موقف منظمة العفو الدولية التي انتقدت سعي يمين سويسرا لحظر المآذن. بل تناولت التغطية الإعلامية حالة الخوف بسبب هاجس التنامي الديموغرافي المتسارع للمسلمين (قفز عدد المسلمين في سويسرا مرات عدة في أقل من ثلاثين عاماً، من نحو 30 ألفاً إلى 350 ألفاً من أصل 7.5 ملايين مواطن أي نحو 4.5% من مجمل السكان).
وفي سويسرا، جاءت الأزمة من الهامش السياسي، بعكس فرنسا مثلاً التي جاءت فيها الأزمة من قلب المركز السياسي، فبدا الأمر كمواجهة شاملة من الدولة الفرنسية. ثم إن مبادرة اليمين السويسري تلك جوبهت بمعارضة ورفض حاسمين من كل الأحزاب السياسية الكبرى: الحزب الاشتراكي الديموقراطي رفضها بحسم، والحزب المسيحي الديموقراطي قال إنها بلهاء وخطيرة ومخالفة للدستور، والحزب الليبرالي الديموقراطي رأى فيها قمعاً... بل إن مؤتمر الأساقفة (المسيحي) رفضها من دون تردد. كما سارعت الحكومة الفدرالية (رغم أنها اضطرت في النهاية للتعامل معها بطريقة قانونية)، إلى إعلان رفضها الحاسم لها باعتبارها ضد مبادئ الحرية الدينية التي يكفلها الدستور، دون أن تنتظر لترى طريقة استقبال الشارع لها. أما مجلس الشيوخ فقد أوصى، بأغلبية 36 في مقابل 3 فقط، برفض مشروع المبادرة، ورأى فيه تعارضاً مبدئياً مع التسامح وحرية الاعتقاد، وكان قد سبقه مجلس النواب إلى الرفض، بما يعني أن مجمل السلطة التشريعية لم تترك مجالاً للتأويل أو التردد. وأول من نقد المبادرة هم السويسريون أنفسهم، فيما لم تألُ الدولة جهداً في بيان رغبتها في ألا تؤثر الحادثة على علاقاتها بالمسلمين والعالم الإسلامي. بل أصدرت ولاية برن قراراً بالموافقة على بناء المئذنة الخامسة قبل حسم أمر المبادرة شعبياً، تأكيداً على رفضها القاطع لهذه التوجهات.
أما في الحالة الفرنسية مثلاً، فقد جاءت الإسلاموفوبيا من قلب

جاءت الأزمة في سويسرا من الهامش السياسي بعكس فرنسا حيث بدا الأمر كمواجهة من قبل الدولة

النخبة السياسية الفرنسية. ففي المرة الأولى، قاد نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية حينها، قضية حظر الحجاب في المؤسسات التعليمية، ودفع باتجاه قانون أقر، وكان ذلك تعبيراً عن مزاج عام في النخبة السياسية الفرنسية. كذلك في أزمة الرسوم الدنماركية التي انتهت إلى ما يشبه صراعاً حضارياً انحازت فيه النخبة، حتى قمة الهرم السياسي، إلى ما رأت أنه حرية الرأي والتعبير، حتى وإن أساءت لمشاعر المسلمين.
ويبدو أيضاً أن طبيعة المشكلة نفسها كانت مسؤولة عن اختلاف رد الفعل. فالمبادرة ترمي إلى تعديل دستوري لا يترتب عليه فعل مباشر يؤثر على حق الممارسة الدينية بصراحة. فهو متوجه لمنع بناء المآذن وليس لمنع بناء المساجد مثلاً. المساجد بدورها قليلة جداً، ولا يتجاوز عدد ما يشتمل منه على مئذنة الأربعة فقط. لربما كانت المشكلة في غياب ولو مصليات صغيرة تلبي التنامي الديموغرافي للمسلمين.
أما وجهة نظر أصحاب المبادرة، من أن المئذنة مجرد رمز للشريعة وليست شرطاً للتعبد، وأنه ليس لها طابع ديني، ولا تؤثر على الشعائر، ولم تُذكر في القرآن أو أي نصوص شرعية فتتناسى أن حرية ممارسة العبادة تكون في أماكنها، ووفق الشروط التي يراها أبناء هذه الديانة.
بل ربما كانت المفارقة أن وجهة النظر هذه تتقاطع مع رأي قطاعات من التيار السلفي، الذي لا يولي كثير عناية لعمارة المساجد، بل ينظر إلى المبالغة فيها نظرة استرابة وتبديع! وهو ما يفسر، ولو جزئياً، لماذا لم يتحرك التيار السلفي الواسع الانتشار ضد هذه المبادرة!
أيضاً، لم تكن المبادرة، على ما تشير إليه من رفض للحضور الإسلامي، موجهة ضد المسلمين ومصالحهم الحياتية. هي موجهة لرمز يتعلق بالتأكيد بالثقافة الإسلامية نفسها، ولكن دون أن يترجم ذلك تمييزاً عملياً على مستوى العمل أو التعليم أو التعبد أو أي من حقوق المواطنة. إنها حالة من الإسلاموفوبيا تتوجه، بحسب الباحث أوليفييه موس، إلى الإسلام فقط لا إلى المسلمين.
* باحث في شؤون الحركات الإسلاميّة