علي أمين جابر *النقد الذي تناول فيه الكاتب معمر عطوي في عدد يوم الخميس 8/10/2009 مسألة الفتوى والاجتهاد، يأتي في سياق النقاش المفتوح هذه الأيام في المسألة الدينية عامة لأسباب عديدة لسنا هنا بصدد ذكرها والحديث عن خلفياتها المتفاوتة. من حيث المبدأ، ينبغي التعامل مع هذا النقد والنقاش برحابة صدر وبكل جدية، شرط احترام قواعد النقد والرأي الآخر.
إن توجيه النقد، سواء كان من موقع ديني أو علماني استناداً إلى ملاحظة عامة لجملة من الظواهر الدينية بقطع النظر عن واقعية بعضها وأنها فعلاً كذلك أو لا، يقتضي وفق المنهج الظواهري (الفينومينولوجيا) قراءتها بنحو علمي لفهم طبيعتها ودلالاتها وعلاقاتها بالفكر والثقافة وتاريخيتها وعدم التسرع بفرض نتائج تقرَّر مسبقاً على أنها نتيجة وخلاصة، من دون أي ربط بتلك الظواهر. وهذا يقتضي بطبيعة الحال اطلاعاً كافياً على ميدان النقد وما فيه، مضافاً إلى أنّ التعرض للمؤسسة الدينية التي أُسندت هذه الظواهر إليها بالمطلق، وتحميلها المسؤولية عمّا يراه الناقد سلباً، يتطلبان شيئاً من التريث والحذر، لا من باب أنه مَساس بالمقدس، بل لكي لا تكون جرأة في غير محلها، فيما هناك حاجة ماسّة إلى الجرأة في ميادين أخرى.
ولا ننكر أن موضوع الإفتاء يشهد تفلتاً في بعض الساحات الإسلامية ويترك تأثيرات سلبية على الشأن الديني والاجتماعي والسياسي، لكن التعميم أيضاً في غير محله. كذلك فإنّ عدم الارتياح لبعض الفتاوى لا يصلح مجوّزاً للحملة على أصحابها، ما دامت من نتاج عملية اجتهادية تلتزم ضوابط الاجتهاد على قاعدة السعي لتحقيق مصالح المسلمين ودرء المفاسد عنهم، وهو ما يقود إلى مسألة الاجتهاد التي مثّلت أساس النقد ومحوره. وليس صحيحاً أن مسألة الاجتهاد باتت مسألة غيبية ما ورائية، وهي لم تكن كذلك، بل تستند إلى قواعد عملية وواقعية لا تغيب عن بال الفقيه، كما هي عملية التقنين الوضعي مع ملاحظة خصوصيات النص الديني الذي هو مادة الاجتهاد الأساسية للفقيه وما له من دلالة لغوية وعرفية لا يمكن تجاوزها بأعمال التأويل العقلي إلا في حدود تقتضيها مسلمات المعتقد والضرورات الفقهية. من هنا، لا يعود الاجتهاد مسايرة لمزاج الأشخاص ورغباتهم، ولا يسمح للفقيه ـــــ ولو من الحيثية الأخلاقية ـــــ أن يمارس خداعاً مع العامة ليجمع مريدين ويؤلف حوله حزباً. ولا يعني ذلك جمود النص وامتناعه عن احتمال الوجوه المتعددة للمعنى، بل قصدنا أن مقولة (لا اجتهاد في مقابل النص) تعني أنّ من غير المقبول إسقاط دلالة النص اللغوية العرفية الظاهرة لمصلحة اعتساف التأويل. وهنا بعض الملاحظات على ما جاء في المقالة لا بد من ذكرها:
من غير اللائق تصوير مواقف الفقهاء على أنها أكاذيب دبلوماسية عن التعايش بين الطوائف
1 ــــــ إن نظرية (منطقة الفراغ) للمفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر لا تتناول ولا تشمل الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية ولا الاجتهاد فيها، بل تختص بالحالات المسكوت عنها في الشريعة، وقد أوضحها الشهيد الصدر خلال جوابه عن سؤال مجموعة من علماء لبنان عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران عقب انتصار الثورة، فقال: «في حالات عدم وجود موقف حاكم للشريعة من تحريم وإيجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثّل الأمة أن تسنّ القوانين ممّا تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور. وتمسّ مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اختيار اتخاذ الموقف، فإن من حق السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيناً وفقاً لما تقدره من المصالح العامة، على أن لا يتعارض مع الدستور».
2 ـــــ بدا جلياً جهل الكاتب بتاريخ الفقه وتاريخ المسائل الفقهية المطروحة فيه، وللتوضيح فإن تاريخ المسألة الفقهية يظهر من خلال استعراض آراء الفقهاء القدماء ثم المتأخرين ثم متأخري المتأخرين إلى أيامنا المعاصرة، وبالعودة إلى الأمثلة الفقهية التي ذكرها الكاتب وادعى أنها غير مسبوقة في التراث الفقهي الشيعي، حتى كدنا نتوهم أنها بدع من الفتاوى، ومن بينها قضية غياب قرص الشمس في تحديد أول الليل وجواز إفطار الصائمين. فالحقيقة أنها مسألة خلافية لدى المسلمين الشيعة منذ القديم، ولعل أول القائلين بهذه الفتوى هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 هـ) المعروف بشيخ الطائفة كما نقلتها المصادر الفقهية الشيعية ومنها (زبدة البيان في أحكام القرآن) للمقدس المحقق الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي (ت 993 هـ): «أول الليل وهو دخول الظلمة في الجملة وقالوا يعلم بغروب الشمس المعلوم بذهاب الحمرة المشرقية بحيث لا يبقى منها شيء وإن بقيت صفرة أو بياض، هذا عند أكثر الأصحاب، وعند الشيخ باستتار القرص كما عند العامة، والروايات مختلفة».
وأما الاعتماد على الحسابات الفلكية لإثبات بداية الشهر القمري بقطع النظر عن الرؤية، فقد كان له سابقة تاريخية قديمة عندما وضع عبد الله بن معاوية جدولاً فلكياً ونسبه إلى الإمام جعفر الصادق وعمل به بعضهم وتركوا الرواية. وقد صرح العلماء بأنّ هذا الحادث لا يضرّ بالإجماع على لزوم الرؤية. لكن الشيخ الطوسي عدّه قولاً شاذاً في كتابه (الخلاف)، ما يدل على أنه كان قولاً عند بعض الفقهاء بغضّ النظر عن القيود المأخوذة فيه.
3 ـــــ من غير اللائق تصوير مواقف الفقهاء على أنها أكاذيب دبلوماسية (عن التعايش بين الطوائف والتقريب بين المذاهب) وأنها (دبلوماسية رثّة)، علماً بأنه خبط خبط عشواء في الفتاوى، فأكثر الفقهاء اليوم لا يقولون بتنجيس أهل الكتاب وطعامهم ما لم يشتمل على محرمات عينية كالخمرة والميتة ولحم الخنزير وسواها. ولا وجود لهذا التوتر الذي توحيه عبارات الكاتب إلا عنده لغاية هو يعلمها.
4 ـــــ إن فقه المجتمع والمصالح العامة حاضر بقوة اليوم في فتاوى فقهاء المسلمين، ولا سيما الشيعة، وهي تؤكد احترام القوانين وأنظمة السير والمرور وحقوق الآخرين، حتى لو كانت الدواعي للمخالفة دينية، وهي مشكلة عامة في مجتمعنا يُسهم الفقهاء في حلها، لكن بماذا يُسهم الكاتب؟!
5 ــــــ ملاحظة أخيرة ترددت في كتابتها لعلمي بمناقبية الصحيفة ومديرها العام، لكن ناداني قوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). لقد كانت المقالة موقّعة باسم الكاتب بعنوان أنه من أسرة الأخبار، ما أوحى أنه موقف الصحيفة نفسها، رغم ما حملته من إساءات وعدم دقة، فاقتضى التنويه.
* باحث وأستاذ في الحوزة العلمية ـــــ لبنان