محمد شعير
يراه بعضهم «مفكراً يطلق النار برومانسية شديدة»، بينما يطلق عليه البعض الآخر لقب «نبي الطبقة الوسطى». اسمه على غلاف كتاب يضمن نفاده في وقت قياسي. علماً بأن أستاذ الاقتصاد جلال أمين... يعشق الأدب. اعتبر أن النزعة الأدبية طبيعيّة عند الإنسان، ما جعله يفضّل «طريقاً آخر للتخصص». اختار الاقتصاد بحثاً عن علاج لقضية الفقر، لكنّه يكره لغة الأرقام، تماماً كما يكره الحياد. تراه متورطاً في كل المعارك.
بدأ جلال أمين ماركسياً، لكنّه اكتشف بعد فترة «قصور النظرية»، فانتقل إلى «الوضعية المنطقية» التي تخلّى عنها أيضاً... التحق فترةً بـ«حزب البعث»، لكنّه لم يصمد طويلاً. هكذا يبدو أستاذ الاقتصاد في «الجامعة الأميركية في القاهرة» كأنه يتخلى باستمرار عن الالتزامات الفكرية التي ارتبط بها. في النهاية، يقرر التالي: «لا أعرف كيف أصنف موقفي الآن»، رغم أنّ نقاداً كثيرين يعتبرونه من جماعة «التراثيين الجدد» التي ترفع شعار «الدين هو الحل». تحولات متعددة مرّ فيها صاحب «ماذا حدث للمصريين» (دار الشروق)، أحد أشهر الكتب الصادرة في السنوات الأخيرة، وأكثرها توزيعاً وإثارة للضجة. ومع ذلك، فإن الابن الأصغر للمفكر الإسلامي أحمد أمين ــــ صاحب الثلاثية الشهيرة «فجر الإسلام» و«ظهر الإسلام» و«ضحى الإسلام» ــــ لا يحترم التحولات الفكرية لدى الآخرين. يرى أن «تحولات زكي نجيب محمود لم تكن مخلصة. لقد حصل على مكانة أكبر مما يستحق، فكتاباته تحتقر التراث». ورغم إعجابه بطه حسين، إلا أنّه يعتبره مثالاً لـ«التنوير الزائف»، حسب عنوان أحد كتبه الأخيرة!
من أين يأتي صاحب «شخصيات لها تاريخ» بهذا الميل إلى التحرّر الدائم من التزاماته الفكرية؟ «التحرر الكامل غير ممكن» يقول، بل يحدث الأمر كالآتي: «تعتنق نظرية معينة، ثم تكتشف قصوراً فيها، وتتوصّل إلى قناعة بأنّها ليست الحل النهائي، فتحاول مع غيرها... هكذا إلى أن ينال منك التعب، ولمّا تصل إلى الحقيقة». لا يعرف الاقتصادي الذي يحبّ الأدب أين يقف الآن. «والله ما أنا عارف» هكذا يقول. لكنّه يعتبر أن قضية «الهوية الثقافية» همّه الأساسي، ولا شيء آخر. ينشغل بها منذ أكثر من ربع قرن، ويظن أنّها ستظل تشغله حتى النهاية، إذ يرى أنّ «الخسارة الاقتصادية يمكن تعويضها بسهولة وفي وقت قصير. والخسارة السياسية يمكن تعويضها نسبياً. أمّا خسارة الهوية فأقرب إلى القتل، والقتيل يصعب إحياؤه». المثال الأبرز الذي يدلّل به على فكرته تلك، هو ما حدث في الجزائر. يقول: «لقد استقلّوا سياسياً وازدهروا اقتصادياً، لكن انظر ماذا جرى هناك للغة العربية».
اهتمامه بقضية الهوية، جعله محافظاً في الأدب... لا يحتمل أي خروج، أو تمرد. من هنا هاجم بضراوة رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، بل أسهم في منع تدريسها في الجامعة! هاجم أيضاً رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر. وهو غير نادم، بل يدافع عن مواقفه على أساس أن «الأدب السامي لا بد من أن يكون أخلاقياً». لكن كيف يكون له الموقف ذاته مع طه حسين. عندما أنهى والده أحمد أمين مذكراته، سأله: «أيهما أفضل مذكراتي أم مذكرات طه حسين؟»، فأجابه جلال بلا تردد: ««الأيام» أفضل طبعاً». الآن لم يعد موقفه نفسه تماماً. يمثل طه حسين بالنسبة إليه «لغزاً»: ما زال «يحبّه ويحترمه»، «لكنّه في كتابيه «في الشعر الجاهلي» و«مستقبل الثقافة في مصر» يدعو إلى التغريب دعوةً كاملة».
المفكّر المنشعل اليوم بالهويّة، لا بدّ من التذكير بأنّه نال الدكتوراه في لندن، وتزوج سيدة إنكليزية، ويدرِّس في «الجامعة الأميركية»، ويقضي الصيف في العاصمة البريطانية... فيما ابناه مقيمان في أميركا. ومع ذلك تجده رأس الحربة في كلّ المعارك الفكريّة والسياسيّة ضدّ الغرب. يضحك: «ليس في الأمر أي تعارض، أنا لست ضد التفاعل بين الحضارات. بالعكس. الثقافة التي لا تتفاعل، تموت... لكنّ هناك فارقاً بين التفاعل والقهر». يضيف مفنداً وجهة نظره: «انظر ماذا تفعل الموسيقى الغربية بموسيقانا الآن. هذا قهر. لكن عندما كان سيد درويش يسمع موسيقى «طلايني» ويتأثر بها، كان ذلك «تفاعلاً حراً». يقال إنّهم وجدوا في مكتبة الشيخ القارئ محمد رفعت بعد رحيله أسطوانات بيتهوفن وموزارت». آراءٌ مثيرة للجدل تشبه صاحبها.
كان يمكن ألا يكون جلال أمين بيننا اليوم. إذ عقد والده العزم على دفع والدته على إجهاضه. ولم يكن الإجهاض أمراً سهلاً في الثلاثينيات، وما زال حتّى اليوم محرّماً من فقهاء كثيرين. «لم يكن هناك طبيب مسلم حينها يقبل بهذه المهمة، فرتّب أبي موعداً مع طبيب إيطالي» يخبرنا. «لم يكن سهلاً على أمي أن تعصي أوامر أبي. مع ذلك، فقد حاولت الهرب مراراً. في النهاية، جلست أمام الطبيب الإيطالي، وسمحت له بأن يبدأ الكشف عليها. ثم تحرك في قلبها غضب غريزي، جعلها تدفع الطبيب بقدمها بكل قوتها صائحة في ثورة: روح يا شيخ، هو أنا حبلى في الحرام... فتراجع الطبيب خائفاً، وقال بلكنة أجنبية ظلت دائماً مبعثاً للضحك في أسرتنا: يا خبيبي أنا مالي؟ عايز تسقط تسقط، عايز تخبل تخبل».
ويعاجلنا أمين باعتراف صادم بأنّ والده أحمد أمين، لم يكن متديناً: «لا أتذكر أني رأيت أبي يصلي... أو يقرأ في المصحف. أتذكّر اعتذاره عن عدم الصوم، بسبب مرض كان يفرض عليه نظاماً معيناً في الأكل، أو بسبب التدخين». لكن هل يسير الابن في الاتجاه المعاكس للأب الذي خلع عمامة الأزهر وانخرط في مشروع التنوير، مع سائر مفكّري عصر النهضة العربية؟ «كان أبي يسعى دائماً إلى التنوير والإصلاح ويحترم الخصوصية، وعندما كتب محمد أحمد خلف الله رسالته للدكتوراه «الفن القصصي في القرآن» غضب منه ووبخه، علماً بأن خلف وجد تشجيعاً من أساتذة آخرين أكثر تمسّكاً بالأعراف والأصول».


5 تواريخ

1935
الولادة في القاهرة، ليكون الابن
السابع للمفكر أحمد أمين

1955
تخرّج من كلية الحقوق
في «جامعة القاهرة»

1966
أصدر باكورته الفكريّة
«مقدمة إلى الاشتراكية»

1998
صدور الطبعة الأولى من كتابه الشهير «ماذا حدث للمصريين» عن «دار الشروق»، وقد بلغ الآن الطبعة الرابعة بالعربيّة، والتاسعة بالإنكليزية

2009
صدر له كتاب «العولمة» (دار الشروق) وكتاب «مصر والمصريون في عهد مبارك» (دار ميريت)