لندن ــ ملاك وليد خالدأنت مقتنع تماماً أنك لا تعادي اليهودية ولا اليهود الذين يعيشون خارج فلسطين. حين تقيم في أوروبا، تتوقع دائماً أن لا تلتقي بيهود فقط، بل بإسرائيليين أيضاً قصدوا تلك البلاد لأسباب قد تشبه أسبابك: دراسة، فرص عمل، أو سياحة. تحلّ المعضلة بينك وبين نفسك، متعهداً بأنك لن تتعاطى معهم حتى تنهي ما أنت هنا لأجله.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة في الواقع. فحين تتوقف في صيدلية وتسأل عن مستحضر يمكنك استخدامه كي لا تتخشب بشرتك من برودة هذا الطقس، وتدعوك الصبية بلكنة إنكليزية ممتازة لتجريب نوع من البحر الميت لأنه «مصنوع من مواد طبيعية، أكد جودتها أفضل خبراء التجميل في إسرائيل»، ستكتشف مدى تعقيدها.
ترى أي خبراء تجميل تقصد؟ أولئك المعنيون بتغيير وجه الاحتلال والحفاظ على صورة الصهيونية النقية من شوائب العرب؟ أم أولئك المسؤولون عن طمس الهوية والتاريخ وعن مصادرة الحق والغد والأرض؟
سألت الصبية التي كانت قبل قليل تمسك يدي وتضع عليها المستحضر: «هل أنت من هناك؟»، بصوت يأتي من بئر ملؤها الجماجم وشواهد الأضرحة وأطلال البيوت المدمرة. «نعم، أنا من إسرائيل»، قالت، لأجيبها بإصرار: «تقصدين أنك عشت في فلسطين المحتلة؟»، أمام إصراري، لم تملك سوى أن تقول: «مهما يكن، سمّها كما تشائين. أصلاً أنا من إسبانيا، لكن عائلتي هاجرت إلى هناك». لملمت نفسي وغضبي التاريخي المتراكم وقذفت بوجهها جملة واحدة قبل أن أغادر: «أنا من لبنان، جنوب لبنان، وعائلتي هُجّرت من فلسطين لتهاجر عائلتك أنتِ إليها». لا أدري كيف قادتني الطريق إلى سكني، والحيرة تتآكلني: «هل تصرفت تصرّفاً صحيحاً؟ هل كان عليَّ أن أنسحب دون أي كلمة؟».

أجبتها بإصرار: تقصدين أنك عشت في فلسطين المحتلة؟

ليلتها، وأنا أتناول عشائي في مطعم الجامعة، جلس قبالتي شاب كان من الممكن أن أتجاذب معه أطراف الحديث كأي طالبين يلتقيان في الجامعة، إلا أن ذلك لم يكن ممكناً. فقد كان يرتدي قميصاً عليه نجمة داوود وكتابة عبرية. بالنسبة إلى الآخرين، كان مجرد طالب آخر، أما بالنسبة إليّ فقد كنت أرى دماء أطفال غزة وقانا ومروحين ودير ياسين تسيل من ضحكته.
لم أرتجف حين شعرت بقلبي قطعة من الخشب تنبض باليقين: ليس من منطق سوى أن نكون أو أن يكونوا. أما التسامح وثقافة السلام والحوار، فكله مستحيل.
منذ ذلك اليوم الذي كانت لشمسه شكل نجمة داوود فوق رأسي، وأنا أسير متلحّفة بكوفية «بيضاء وسوداء»، تماماً كما هي معادلات الحياة الأوضح. هكذا أعلن لهم أنني لست عقلانية ولا منطقية ولا محايدة: ما زالوا أعداء، وما زلنا نحن وهم على ضفتين لا تلتقيان ولا جسر يربطهما.
أنا منحازة وعنصرية وخشبية الأفكار واللغة، وذلك حتى إشعار آخر، حتى تموت فيّ أغنية تبشّر أننا «نرجع بعد قليل».