إذا كان قد بقي بعض من شكوك في ما يخص وضع السلطة الوطنية الفلسطينية ونزاهتها، ورئيسها المزعوم محمود عباس («المزعوم» لأن مدة ولايته، على ما كانت عليه من علات، انتهت منذ حوالى سنة)، فقد تبدد حتماً ونهائياً بسبب قرارها سحب دعمها مشروع قرار من الأمم المتحدة كان سيحيل تقرير غولدستون بشأن عدوان إسرائيل على غزة بُعيدَ عيد ميلاد عام 2008 إلى مجلس الأمن الدولي
سري مقدسي *
وضعت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق بشأن الحرب في غزة برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون تقريراً يتألف من 575 صفحة، وقد أكد التقاريرَ الموثقة بكثافة التي كانت قد نشرتها منظمات حقوق الإنسان، بما فيها منظمة العفو الدولية. وكانت تلك التقارير قد أكدت بدورها كل الادعاءات الفلسطينية القائلة إن إسرائيل استخدمت مثلاً الفوسفور الأبيض استخداماً خطيراً وعشوائياً على الأحياء السكنية المكتظة في غزة؛ وقصفت عشوائياً أهدافاً مدنية، بما فيها مدارس تابعة للأمم المتحدة (كما وُثق في صور عرفت انتشاراً واسعاً، إلا في الولايات المتحدة، تُظهر اعتداءً بالفوسفور على مدرسة تابعة للأمم المتحدة في غزة)؛ واستخدمت المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية؛ وعاقبت سكان غزة جماعياً إذ فرضت عليهم حصاراً خانقاً ومنعتهم من التزود بالمؤن الحيوية من غذاء ودواء ونفط (ليس منذ الاعتداء الأخير وحتى يومنا هذا فحسب، بل، بدرجات متفاوتة، منذ عام 2005، ويجوز حتى القول إنها فرضته ابتداءً من 1991 حين أحكم الإسرائيليون بمنهجية الطوق على القطاع البائس وعزلوه عن العالم الخارجي للمرة الأولى).
وكان تقرير منظمة العفو الدولية الذي نُشر في تموز/ يوليو قد كشف أن «مئات المدنيين قُتلوا في هجومات شُنت باستخدام أسلحة فائقة الدقة، قنابل وصواريخ تُطلق من الجو، وقذائف دبابات. آخرون، بمن فيهم نساء وأطفال، فُتحت عليهم النيران من مدى قريب، فيما لم يمثّلوا تهديداً لحياة الجنود الإسرائيليين. واستهدفت عملياتُ القصف الجوي، التي أطلقتها الطائرة الحربية الإسرائيلية ف 16، بيوتَ مدنيين ودمرتها من دون أي إنذار، فقتلت وجرحت العشرات من سكانها فيما كانوا نياماً في غالب الأحيان. أولاد يلعبون على أسطح بيوتهم أو في الشوارع، ومدنيون آخرون يقصدون أعمالهم اليومية، وفرق طبية ترعى الجرحى، قتلتهم في وضح النهار صواريخُ هيلفاير (نار الجحيم) وغيرها من الصواريخ الفائقة الدقة التي أطلقتها مروحيات وطائرات بلا طيار، أو قذائفُ دقيقة التوجيه قصفتها الدبابات».

اعترف أحد الجنود
الإسرائيليين بالنظرة السائدة إلى فلسطينيي غزة بالقول: «تشعر كأنك ولد ينظر بعدسة مكبرة إلى النمل ويحرقها بصبيانية»
إن تقرير غولدستون (على الرغم من أنه يستخدم أقوى اللهجات عندما يتناول الهجومات الصاروخية الفلسطينية التي قتلت 3 مدنيين إسرائيليين مقارنة بالـ1400 فلسطيني الذين قُتلوا في غزة، غالبيتهم العظمى من المدنيين وربعهم من الأطفال)، يكرّر العديد من الاستنتاجات ذاتها، ويفنّد، الواحدة تلو الأخرى، الحالات التي شنت فيها القوات الإسرائيلية «هجومات متعمدة ضد السكان المدنيين وأهداف مدنية» بما فيها «قتل المدنيين فيما كانوا يحاولون مغادرة منازلهم للجوء إلى أمكنة توفر أماناً أكبر أو يلوحون بالرايات البيض، وفي بعض الحالات، ينفذون أوامر أصدرتها إليهم القوات الإسرائيلية ليفعلوا ما كانوا يقومون به. والحقائق التي جمعتها اللجنة تشير إلى أن كل الهجومات [الأخيرة] حصلت في ظروف كانت فيها القوات الإسرائيلية تسيطر على المنطقة، وقد تواصلت مسبقاً مع الأشخاص الذين هاجمتهم لاحقاً أو قد راقبتهم على الأقل، وبالتالي كانت تدرك حتماً أنهم مدنيون». وتشير هذه الأفعال، التي تمثّل كلها جرائم حرب، وفق تقرير غولدستون، إلى «أن كل التعلميات التي أُعطيت للقوات الإسرائيلية بدخول غزة مثّلت منطلقاً لاستخدام الأسلحة النارية الفتاكة ضد المدنيين».
طبعاً، من بين الأمور الأخرى التي أبرزها تقرير غولدستون أنه أكد التقارير الموثقة جيداً (وقد سارع إلى رفضها الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر نفسه «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم») التي تفيد بأن الجنود الإسرائيليين أنفسهم أقروا بالوحشية التي اتسم بها قصف غزة، وخلّفوا وراءهم، كدليل قاطع على نظرتهم إلى الفلسطينيين، تلك النظرة التي شجعتهم عليها السلطات الرسمية، كلاً من الشعارات العنصرية (مثل «أتينا لنبيدكم؛ والموت للعرب؛ وكان كاهان على حق؛ ولا رحمة، أتينا لتصفيتكم») والبراز البشري وقد لوّث جدران البيوت الفلسطينية التي نهبوا وخربوا عمداً. فقد اعترف أحد الجنود الإسرائيليين بالنظرة السائدة بين أفراد الجيش الإسرائيلي إلى فلسطينيي غزة بالقول «تشعر كأنك ولد ينظر بعدسة مكبرة إلى النمل ويحرقها بصبيانية»، وقد نمّت هذه النظرةَ جزئياً ادعاءاتُ الفيالق الحاخامية في الجيش التي قارنت فلسطينيي اليوم بفلسطينيي التوراة وحثّت الجنود الإسرائيليين على «ألا
يرحموا».
ينبغي ألاّ يكون أي من هذه الاستنتاجات مفاجئاً. فالجيش الإسرائيلي نفسه صرح علانية، حتى قبل أشهر من بدء القصف، أن استراتيجيته في كلٍّ من لبنان وفلسطين قد صُممت، منذ 2006، على الاستخدام الساحق والعشوائي للقوة النارية المفرطة: ما يُسمى «عقيدة الضاحية»، إشارة إلى ضاحية بيروت الجنوبية التي دمرها الإسرائيليون تدميراً تاماً حتى سووها بالأرض في الحرب التي شنوها عام 2006 على لبنان، كما فعلوا أيضاً في العديد من القرى جنوب البلاد. وقد أعلن أحد الجنرالات الإسرائيليين (غادي إيزينكوت) متجاهلاً بازدراء قانون الحرب: «سنستخدم قوة غير متكافئة ضد أي قرية تُطلَق منها النار على إسرائيل ونخلّف أضراراً ودماراً هائلين». وأضاف: «إنها قواعد عسكرية من وجهة نظرنا». «هذا ليس اقتراحاً، بل هي خطة قد أُذن العمل
بها».
بالإضاقة إلى التخطيط لاستخدام القوة استخداماً مفرطاً وعشوائياً في الجوهر، ومحاولة تشريعه (بما يرضي الجيش الإسرائيلي نفسه على الأقل)، أجاز النظام القانوني العسكري الإسرائيلي تحديداً شن هجومات متعمدة، مثل ذاك الذي قتل العشرات من شرطيي غزة العزّل فيما كانوا يقومون باستعراض في حفل تخرجهم، وذاك الذي استهلت به إسرائيل قصفها في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008. وتنطوي هذه الهجمات في صميمها على انتهاكات فاضحة لمبدأَي التناسب والتمييز اللذين يمثّلان عَمودَي القانون الدولي الإنساني.
أكثر من هذا، إن تقريرَي منظمة العفو الدولية ولجنة غولدستون ليسا الوحيدين اللذين ذكرا استخدام قوة ساحقة وعشوائية، عمداً وبأسلوب خُطط له مسبقاً، بتجاهل تام لمبدأَي التناسب والتمييز مجدداً، بل اعترف بذلك علناً ضباط إسرائيليون أنفسهم. وقد أورد أحد تقارير الصحافة الإسرائيلية أنه «في بداية الهجوم الأرضي، قررت القيادة العليا أن تتجنب تعريض حياة الجنود للخطر، ولو كان الثمن إلحاق أذى كبير
بالمدنيين.
لهذا السبب استخدم الجيش الإسرائيلي القوة المفرطة في خلال تقدمه في القطاع. وكما شرح أحد قادة لواء غولاني، إذا برز أدنى تخوف من استخدام أحد البيوت كشرك، فيجب أن يُستهدف هذا البيت ويقصف للتأكد من أنه غير مفخخ حتى ولو امتلأ بالمدنيين، وعندئذ فقط يُمكن الاقتراب منه. من دون الخوض في الجوانب الأخلاقية، تشرح مثل هذه التكتيكات القتالية سبب انتفاء الحالات التي اقتضت مهاجمة بيوت لجأ إليها مقاتلو حماس». في النهاية، جُلّ ما فعلته هذه التحقيقات، بما فيها تحقيق لجنة غولدستون، أنها أكدت فقط ازدراء إسرائيل (الذي تباهت به مراراً) للقانون الدولي الإنساني.
غنيّ عن القول إن إسرائيل، منذ البداية، لم تقبل بتاتاً التعاون مع تحقيق غولدستون، ورفضته، كما رفضت كل المحاولات السابقة للتحقيق في سلوكها أو لاعتبارها عرضة للمحاسبة وفق مبادئ القانون الدولي الإنساني، لأنه «غير منصف» و«غير متوازن» (كما لو أن ثمة ما هو «متوازن» في الصراع بين القوة المطلقة لسلطة غاصِبة وشعب مغتصَب عاجز عن حماية نفسه أساساً).
ومن بين لجان التحقيق العديدة السابقة التي سارعت إسرائيل إلى رفض التعاون معها، تلك التي قادها كبير أساقفة جنوب أفريقيا ديسموند توتو، وكانت تحقق في قتل إسرائيل 19 فرداً من عائلة فلسطينية في غزة سنة 2008؛ واللجنة التي عيّنها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان سنة 2002 من أجل التحقيق في التدمير العشوائي للمناطق المدنية إبان العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين في ربيع تلك السنة (وهي عمليات اعتبرها تحقيق منفصل أجرته منظمة العفو الدولية أنها تضاهي «خروقات خطيرة لاتفاقية جنيف الرابعة، وهي جرائم حرب»)؛ والتحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة بشأن مجزرة ارتكبتها إسرائيل بحق حوالى مئة لبناني لجأوا إلى مقر الأمم المتحدة في قانا في لبنان عام 1995، وقد اعتبرت فيه أنه «لا يُحتمل أن يكون قصف مركز الأمم المتحدة نتيجة خطأ تقني و/أو إجرائي كبير»، كما أعلن الجيش الإسرائيلي في ذلك الحين، وكما يقول دوماً طبعاً عندما يقتل جنوده عشرات المدنيين: في الواقع، لم تعتبر إسرائيل مرة واحدة ضباطها أو جنودها عرضة للمحاسبة عن مثل هذه الجرائم. وفي كل الحالات السابقة، كانت الولايات المتحدة تدعم إسرائيل في رفضها المتعنت أن تكون عرضة للمحاسبة أمام القانون، وأثبتت إدارة أوباما هذه المرة أيضاً أنها لا تنوي تغيير هذا التقليد بالتحديد.
مع ذلك، بحسب ما أشار البروفسور ريتشارد فولك (مفوض الأمم المتحدة لشؤون حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة)، كان يمكن تقرير غولدستون أن يوفّر الأساس لإحالة سلوك إسرائيل إبان الحرب على غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية أو محاكم دولية أخرى، أو لإنشاء محكمة للنظر في جرائم الحرب على غرار تلك التي أقيمت بعد كارثَتي البوسنة ورواندا. كان ذلك ليُعدّ أفضل طريقة تجعل من إسرائيل أخيراً عرضة للمحاسبة على انتهاكاتها الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، وعلى ما ترتكبه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (ليس أقلها عزل شعب مدني بأكمله عن العالم الخارجي، وحرمانه من القدرة على طلب الأمان، ومن ثم إخضاع ذلك الشعب ذاته، العاجز عن حماية نفسه والمحروم من الملاذ الآمن، ويتألف معظمه من الأولاد، إلى قصف عشوائي على مدار
الساعةبيد أن عملية الإحالة كانت ترتبط بنتيجة تصويت يُجرى ضمن الأمم المتحدة ويجيز إحالة تقرير غودلستون إلى مجلس الأمن لمزيد من المشاورات، ولإنشاء محكمة خاصة بجرائم الحرب وإلى ما هنالك. وكان كل هذا يرتبط بدوره بدعم الدبلوماسيين الفلسطينيين الذين عيّنهم محمود عباس والمسؤولين أمامه.
لكن أضحى واضحاً الآن أن الفريق الفلسطيني الذي يمثل محمود عباس لدى الأمم المتحدة (لأنه لا يمثل الشعب الفلسطيني حتماً) سحب، بناءً على تعليمات الأخير، دعمه القرار الذي كان يمكن أن يرسي الآلية القانونية للنظام القضائي لكي يبدأ العمل. وبالتالي يصعب على المرء أن يتوقع من دول أخرى مقاومة الضغط الأميركي ودعم قرار باسم حقوق فلسطينية ليست البعثة الفلسطينية ذاتها مستعدة لدعمها، فلماذا تكون فنزويلا أو نيجيريا أو الباكستان أكثر فلسطينية من الفلسطينيين؟
سرت أخبار في وسائل الإعلام العربية والإسرائيلية والأوروبية مفادها أن عباس ومساعديه ربما دُفعوا إلى التصرف على هذا النحو الغريب لأن إسرائيل كانت تهددهم بأنها، إذا استمروا بدعمهم قرار الأمم المتحدة، ستمتنع عن التخلي عن جزء من طيف الترددات الذي يسمح بإنشاء شركة فلسطينية جديدة للهاتف الخلوي، الوطنية: وهي ثمرة شركة محاصصة بين مستثمرين قطريينوصندوق الاستثمار الفلسطيني، علماً بأن لعباس نفسه وأحد أبنائه الأثرياء علاقات شخصية مع هذا الصندوق. وافترض الفلسطينيون أن الفساد والمحسوبية بكل بساطة كانا ربما وراء قرار عباس. وكانت السلطة الفلسطينية ومجموعة المسؤولين المرتبطين بها قد نالتا حتماً حصصيهما من تهم الفساد، ربما أفظعها اتهام أحمد قريع، رئيس وزراء السلطة الفلسطينية المزعوم في ذلك الحين (مجدداً «المزعوم» لأن رؤساء الوزراء عادة يأتون على رأس دولة يحكمونها، فيما السلطة الفلسطينية ليست دولة البتة)، ببيع الإسمنت إلى الإسرائيليين لكي يبنوا جدارهم في الضفة الغربية. كما أن فساد السلطة الفلسطينية والحلقة الضيقة المؤلفة من مسؤولي فتح الذين يتولون إدارتها ويتشبثون بها ويفيدون منها، هو أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى إبعاد فتح عن الحكم لمصلحة حماس في انتخابات 2006 الفلسطينية: فقد كان معظم الناس حينها يصوتون ضد حركة فتح والفساد الذي يعيثها ووضعها الميؤوس منه أكثر مما يصوتون لحماس (التي لم ولا تملك إلا القليل لتقدمه للشعب عدا أنها ليست فتح: مفخرة لا تكفي لمواصلة الطريق).
يُمكن حتماً ألاّ يكون الفساد والمحسوبية العاملين الدافعين إلى قرار عباس بسحب الدعم الفلسطيني لتقرير غولدستون، فثمة احتمالان آخران.

3 احتمالات: السلطة الفلسطينية إمّا فاسدة إلى درجة يكاد يستحيل تخيلها؛ أو أنها غير كفوءة بتاتاً؛ أو أنها مجرد وكيلة للاحتلال الإسرائيلي

يقول أحدهما بانعدام الكفاءة بكل بساطة، وبأن عباس ومساعديه يفتقدون الذكاء والمخيلة والمهارة السياسية لدرجة جعلتهم يفسدون المسألة برمتها. وليس هذا بالأمر المستحيل طبعاً: فعباس نفسه رجل تنقصه على نحو غريب كل مواصفات الشخص اللافت للانتباه ومعرض بعمق للشبهات، أما حلقة مساعديه، بما تضم من رجال أمثال محمد دحلان وصائب عريقات، فلا توحي بالثقة بتاتاً، تماماً مثل عباس نفسه. بغض النظر كلياً عن عدم اكتراثهم الكامل لمأساة الفلسطينيين في غزة (التي يجب أن يتصدر إيجادُ حل لها أولوياتهم الأساسية)، ينبغي أن يكون واضحاً أن أي طرف يجري مفاوضات ويتخلى باستهتار عن ورقة نادرة فيما يحاول أن (أو على الأقل يدّعي أنه) يفاوض، هو ليس أهلاً للتفاوض بالدرجة الأولى، لكي لا تُستخدم تعابير قاسية، من دون الكلام على عدم أهليته للادعاء بأنه «يقود» شعباً يتحدى الصعاب ولا يُقهر مثل الفلسطينيين. فإذا كانت القيادة في رام الله فعلياً غير كفوءة إلى حد ميؤوس منه كما يظهرها هذا السيناريو، يمثّل ذلك سبباً كافياً لإبعادها عن الحكم إن لم يكن لحلّ السلطة الفلسطينية بحد ذاتها. (على الرغم من أنه يصعب على المرء «أن يبعد عن الحكم» شخصاً مثل عباس ليس في الحكم فعلياً أساساً، فهو هناك لأن الإسرائيليين والأميركيين يريدونه هناك ولأن انتخاب خلف له بعد انتهاء ولايته أُرجئ بأمر من واشنطن وتل أبيب، وليس لأنه يملك تفويضاً رسمياً من الشعب الفلسطيني نفسه، إذ إن الأكثرية الساحقة من أفراده لا تثق به البتة، كما أظهرت الاستفتاءات بانتظام).
الاحتمال الآخر، وأظنه الأرجح، أن عباس والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية المشلولة أساساً ليسوا (ولم يكونوا يوماً، على الأقل منذ وفاة ياسر عرفات) مهتمين بأن يجروا مع إسرائيل مفاوضات جدية من شأنها أن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية حقيقية في الأراضي المحتلة. ففي النهاية، أحد أبرز الانتقادات التي وُجهت إلى اتفاقيات أوسلو التي عُقدت في فترة 1993ــــ1995 وأنشأت السلطة الفلسطينية، هو أنها لم تنهِ بتاتاً احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، بل جلّ ما فعلته أنها نقلت العبء والكلفة اليوميين المترتبين على إدارة الاحتلال إلى السلطة الفلسطينية الحديثة النشأة، فيما سمحت لإسرائيل بالاستمرار في تدمير البيوت الفلسطينية، ومصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، بما يمثّل انتهاكاً للقانون الدولي. وقد فرّقت اتفاقيات أوسلو أيضاً الأجزاء الأساسية الثلاثة في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل منذ 1967 (غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية) بعضها عن الآخر وفصلتها عن العالم الخارجي، وقسّمت، إضافة إلى ذلك، الضفة الغربية بحد ذاتها إلى مناطق «أ» و«ب» و«ج». وفي المنطقة «أ» وحدها (حوالى 18 في المئة من مجمل الأراضي) امتلكت السلطة الفلسطينية نوعاً من الوجود العملي على الأرض، فيما لم يكن لها في المنطقة «ج» (60 في المئة من الضفة الغربية) أي دور تؤديه، وهناك كانت إسرائيل (ولا تزال) منشغلة بعمليات التدمير والمصادرة والبناء. بتعابير أخرى، إن كلاًّ من اتفاقيات أوسلو والسلطة الفلسطينية بعيدتان كل البعد عن إنهاء الاحتلال وإرساء الأسس لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، لا بل سمحتا لإسرائيل فعلياً بتوطيد احتلالها وبتثبيت قبضتها على الأراضي الفلسطينية. ولهذا السبب تحديداً تضاعف عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية والقدس الشرقية في خلال حقبة أوسلو، ويتزايد عددهم باطّراد منذ ذلك الحين، إذ يكاد يبلغ نصف مليون نسمة اليوم.
وأظهرت هذه الحقبة الأخيرة بكل وضوح، أن السلطة الفلسطينية تخدم إسرائيل عبر تسهيل الاحتلال، ولهذا السبب اخترعتها إسرائيل بالدرجة الأولى، تماماً كما حاولت السلطات الاستعمارية، بالعودة إلى التاريخ، أن تنشئ دوماً نخباً محلية أو أن تجبر هذه النخب على مساعدتها في التعامل مع السكان ككل: إنها مقاربة ربما لخّصها بألبق ما يمكن طوماس ماكولي في «مذكرة عن التربية الهندية» التي كتبها عام 1835 («علينا حالياً أن نبذل كل ما بوسعنا لإنشاء طبقة تستطيع أن تلعب دور الوسيط بيننا نحن والملايين التي نحكم؛ طبقة تتألف من أشخاص هم هنود من حيث الدم والسحنة، ولكنهم بريطانيون من حيث الذوق والآراء والأخلاقيات والثقافة»). ولمَ قد ترغب السلطة الفلسطينية بإنهاء اتفاق تفيد منه؟ فكما يشير المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، يؤمّن الوضع الراهن لنخب السلطة الفلسطينية في رام الله «مستوى حياة وكرامة ومبرّر وجود» وربما (إذا صحت الشائعات المتعلقة بعقد الهاتف الخلوي مثلاً) أكثر من ذلك بأشواط على شكل مكافآت مالية، هذا بالإضافة إلى كل ما سبق.
حتى لو شاء المرء ألاّ يشك في السلطة الفلسطينية ولا في عباس ومساعديه ويقول إنهم فعلاً حريصون كل الحرص على مصالح شعبهم العليا، يبقى أن السلطة الفلسطينية، حتى في أفضل السيناريوهات، تستطيع الادّعاء بتمثيل أقلية من الشعب الفلسطيني فحسب، بما أن أقلية فقط من الفلسطينيين تقيم في الأراضي المحتلة: فالأغلبية تعيش إمّا في المنفى الذي فُرض عليها عنوة في خلال إنشاء إسرائيل سنة 1948، أو (في حالة الفلسطينيين الذين نجوا من التطهير العرقي الذي أُجري في ذلك العام ومكثوا في منازلهم) كمواطنين غير يهود، مواطنين من الدرجة الثانية في الدولة اليهودية المزعومة التي تمارس ضدهم سياسة التمييز العنصري بمنهجية فقط لأنهم غير يهود.
هذه إذاً هي الاحتمالات أمامنا: السلطة الفلسطينية لا تمثل الشعب الفلسطيني، ليس هذا وحسب، بل هي أيضاً، علاوة على ذلك، إمّا فاسدة إلى درجة يكاد يستحيل تخيلها؛ أو أنها غير كفوءة بتاتاً ومسؤولة عن التفريط بحقوق شعب وآماله، ما يجعلها غير مؤهلة للادعاء بتوليها القيادة؛ أو أن ما يهمها ليس حقوق شعبها وآماله بل تأبيد وضعها الخاص كوكيلة الشؤون اليومية لاحتلال إسرائيلي دائم، وفي هذه الحالة لا تكون أقل تعاوناً مع العدو المحتل مما كانت عليه «حكومة» فيشي في فرنسا الواقعة تحت الاحتلال النازي في الأربعينيات من القرن المنصرم. الفساد؛ اللاأهلية؛ التعاون مع العدو المحتل: كم يصعب
الاختيار.
* أستاذ الإنكليزيّة والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)