انتهت في بيروت، أمس، أعمال «اللقاء الأول لنقابات المعلمين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الذي استضافته رابطة أساتذة التعليم الثانوي ونقابة المعلمين، لثلاثة أيام، والذي يمكن تلخيصه بتعارف بين تجربتين نقابيّتين، واحدة في الشرق وأخرى الغرب
فاتن الحاج
من يشارك في لقاء يجمع ممثّلين عن نقابات للمعلمين في عدد من الدول العربية، وأخرى من الدنمارك والنرويج وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، فبإمكانه أن يلحظ بوضوح أنّ هناك حركتين نقابيّتين تحمل كل منهما هموماً مختلفة عن الأخرى. فمع أنّ السلطات في جميع الدول لا تتوانى، للأسف، عن مصادرة الحركة النقابية ومحاولة تعطيلها، فإنّ ذلك لا يمنع اتحادات ونقابات المعلمين في الغرب من تعزيز سياسات المواجهة عبر تطوير للتواصل مع القاعدة. هكذا، تطلق الحوارات وجهاً لوجه مع أكبر عدد ممكن من المعلمين، ويصبح الهمّ النقابي استقطاب المزيد من الأعضاء، وإقناعهم بأهمية العمل النقابي لتحسين ظروفهم المهنية والمادية. هكذا أيضاً، يمضي اتحاد المعلمين الأميركيّين مثلاً، وقتاً طويلاً في تدريب الأساتذة على التخطيط لنيل حقوقهم والمحافظة على مكتسباتهم. المهم، كما يقول عضو الاتحاد بيل هارتي لـ“الأخبار”، أن يقنع القائد أو رئيس النقابة الأساتذة بخطابه بعد أن يستمع إلى تطلّعاتهم. لكن يبدو أنّ التحدي الأكبر الذي يواجهه هذا الاتحاد، كما الاتحادات والنقابات الأخرى في أوروبا، هو خسارة التراكم النقابي بخروج النقابيّين التاريخيين إلى التقاعد في السنوات القليلة المقبلة. لذا تنصبّ الجهود حالياً على إكساب النقابيّين الشباب الكفاءات اللازمة، وتشجيعهم على الترشّح للانتخابات النقابية، ولا سيّما من هم دون سن الـ35، كما يحصل في النرويج مثلاً. (أنظر الكادر).
وفي وقت تتركّز فيه جهود هؤلاء الغربيّين باتجاه تطوير الحسّ النقابي والأداء المهني للمعلّمين لمواجهة المعارضة الشرسة للحكومات كما يصفها هارتي، فإنّ المشهد يبدو بطريقة مؤسفة، مغايراً في البلدان العربية. هنا المشكلة في مكان آخر، فعوضاً عن تفرّغ النقابات للدفاع عن حقوق المعلمين يصبح همّها الأساسي المحافظة على مجرد وجودها.
ورغم المتنفّسات الشكلية في بعض الدول العربية، فإن بإمكان المستمع إلى التجارب النقابية المستقلّة، الجدية، أن يتبيّن واقعاً نقابياً عربياً مشتركاً، من سماته عدم اعتراف الأنظمة بالنقابات المنبثقة عن انتخابات ديموقراطية، سواء في القانون أو الممارسة، ومحاولتها خلق هيئات نقابية صورية لمحاربة الهيئات الممثلة فعلياًَ للمعلمين وشرذمة العمل النقابي.
ومع ذلك، لا تزال هناك نقابات تصارع، كما في لبنان وتونس والجزائر والمغرب.
فلبنان لم يوقّع الاتفاقيّات الدولية التي تنص على حق التنظيم النقابي، كما أنّ القوانين المحلية لا تكرّس هذا الحق للمعلمين وسائر موظفي القطاع العام، بينما هو متاح للمعلمين في المدارس الخاصة الذين لديهم نقابتهم المستقلة. ومع ذلك، فإنّ رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي تمارس، بحسب عضو الرابطة الدكتور عصمت قوّاص، هذا الحق فعلياً كأنها نقابة. فهي تفاوض وزارة التربية، وتعلن الإضراب والتظاهر لنيل الحقوق بأمر الواقع لا بقوة القانون. ومع ذلك، فالرابطة ليست بمنأى عن تهديد الحكومة بحلّها، وهو ما حصل فعلاً عام 1973 حين حلّت الحكومة روابط المعلمين وقادت نحو 300 معلم إلى السجن بحجة ممارستهم عملاً غير مشروع. وفي عام 2000، هدّدت الحكومة بإحالة قادة الرابطة على المحاكمة للخلفية نفسها.
لكن أزمة النقابات العربية هي أزمة حريات في الأساس، يقول د. خالد النويصر، عضو الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي. فالمشكلة في تونس ليست في القانون الذي يضمن حق التنظيم النقابي، بل في الممارسة. فبعدما كان النظام في السبعينيات والثمانينيات يستخدم وسائل عنفية، من خلال زجّ القادة النقابيين في السجن وما شابه، فإنّه “بات يتدخّل بوسائل ذكية” كما يصفها النويصر، كافتعال أزمات داخلية، والتشكيك في تمثيل النقابات لقواعدها. وقد وقعت نقابتهم ضحية هذه السياسات منذ ذلك الحين. ويروي النويصر كيف “أغرت السلطة رئيس النقابة مصطفى التواتي بالإشراف على تعاونية للتعليم العالي مقابل توقيعه اتفاقاً يقرّ بزيادة محدودة للرواتب، مقابل زيادة كبيرة في عدد ساعات العمل”. وافق التواتي ولم يستجب لاستشارة قواعد المعلمين. عندها تداعى المعلمون لعقد مؤتمر استثنائي ينزع الثقة عن رئيس النقابة، فتقدم هذا الأخير بشكوى قضائية بصفة استعجالية، بدعوى أنّ المؤتمر غير قانوني. هكذا عمدت الحكومة إلى إيجاد تشكيلة نقابية متواطئة، “ولم تعد تعترف بالنقابة الشرعية الممثّلة للمعلمين، بل بدأت تفاوض رئيس النقابة، الذي لا يمثّل إلّا نفسه” كما يقول النويصر. لم تستسلم نقابة التعليم فضغطت باتجاه فتح الحوار والاعتراف بها. وكانت

خوف عالمي من خسارة التراكم النقابي مع خروج النقابيين التاريخيين إلى التقاعد
قمة التحركات الإضراب الإداري، أي الامتناع عن تصحيح الامتحانات لمدة 5 أسابيع، وتقديم شكوى لدى منظمة العمل الدولية عن طريق الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي تنضوي النقابة في إطاره. اجتمعت لجنة الحرية النقابية في المنظمة الدولية، وأصدرت تقريراً يطالب الحكومة التونسية بالتفاوض مع النقابة، وإنهاء المسألة القضائية. أدى هذا التقرير إلى تراجع الحكومة التونسية عن قرارها بعدم التفاوض مع النقابة. لكنّ النقابة لمست أن التراجع لم يكن جدياً، بدليل أن المفاوضات بقيت شكلية، ولم تؤدِّ إلى أي اتفاق بشأن المطالب الحيوية للأساتذة. ومع ذلك يعتقد النويصر “أننا استطعنا بواسطة التعبئة الذاتية والتضامن الدولي أن نأخذ الحركة النقابية باتجاه مثالي، وإن كنا لم نصل بعد إلى النتيجة المرجوّة”.
أما التجربة المغربية فلا تختلف كثيراً، إذ “اختار النظام اللجوء إلى تشتيت المشهد النقابيّ حتى أصبح هناك أكثر من 34 نقابة في التعليم العام (الأساسي والثانوي) وحده. وبالتالي، بات من الصعب على النقابات، أن تكون قوة في مواجهة الحكومة” كما يقول عبد العزيز منتصر، الأمين العام بالنيابة للنقابة الوطنية للتعليم في المغرب، ويضيف “لم تعد هذه الأخيرة تعير اهتماماً لأي تحرك نقابي، إذ ينظّم في الشهر الواحد أكثر من 10 إضرابات لا تحقّق أي جدوى”.
إلّا أنّ النقابة الوطنية في التعليم حاولت، بحسب منتصر، فهم التحوّلات في الحقل النقابي عبر ابتكار آليات جديدة للتنظيم. ومنها حل مشكلة قلّة إقبال المعلمين، حيث إن أكثر من 50 % من المعلمين فضّلوا عدم الانخراط في النقابة. كما أطلقت النقابة حوارات تنسيقية مع ثلاث نقابات في الساحة الداخلية بشأن ملفات مطلبية والتفاوض مع الحكومة جماعيّاً، “ما يكسب حركتنا النقابية قوة أكثر”، يقول منتصر، وهو العربي الوحيد العضو في “الدولية للتربية” الاتحاد النقابي العالمي. وبصفته هذه، لا يغفل النقابي المغربي دور الحركة النقابية العالمية في بلورة برامج تعاون دولي لمساعدة النقابات العربية. وهذا ما بدأت تفعله الدولية للتربية عبر إصدار بيانات مساندة للمعلمين، منها على سبيل المثال التنديد بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، وتوقيف حكم الإعدام بحقّ معلم في إيران بسبب عمله النقابي.


النرويج: صوت النقابيين الشباب

سعى الاتحاد النرويجي للتربية في السنوات الست الأخيرة باتجاه تمثيل الشباب في الهيئات النقابية. “الاستفادة من الصوت الشبابي في عملنا الاتحادي والنقابي باتت أمراً ملحّاً”، تقول اليزابيت داهلي، عضو الاتحاد. وتشرح كيف أصبح معظم الأعضاء من الجيل القديم، الذي يحتكر الخبرة النقابية. كما لا يثق هذا الجيل، بحسب داهلي، الذي سيخرج إلى التقاعد قريباً، بقدرة الشباب على الإصلاح النقابي، فهم لم يناضلوا طيلة الـ15 سنة الماضية، ولا يفقهون سوى القيام بأعمال التدريس.
لذا عمد الاتحاد إلى تشجيع الشباب دون سن الـ35 على الترشح للانتخابات النقابية. وقد برزت تباينات في المشاركة بين المناطق النرويجية، إلّا أن داهلي تؤكد أنّ عدد أعضاء المندوبين الشباب يزداد ازدياداً ملحوظاً، ففي المؤتمر الأخير للاتحاد وصل هذا العدد إلى 17 مندوباً شاباً من أصل 190. وتتمنّى داهلي أن يأتي اليوم الذي “لا نضطر فيه إلى التركيز على الشباب ككيان منعزل، وأن يكون إشراكهم جزءاً من عملنا التلقائي”.