Strong>بيسان طيكان الطفل أغوب يمضي ساعات طويلة، يتأمّل من خلف نافذة غرفته في ساحة رياض الصلح حركة حياة وأناس لا تهدأ. عينا الفتى تنشدّان إلى التظاهرات والاحتجاجات ضد سياسة الحكومة، أو للدفاع عن قضايا عربية... كان ذلك في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن المنصرم، وكانت المنطقة مختلطة، يعيش فيها فقراء الطبقة الوسطى وأبناؤها.
بعد عقود، سيصير لأغوب بقرادونيان مكتبٌ في ساحة النجمة، ليس بعيداً عن منزله الأول، وسيطلّ من نافذته على ساحة الاحتجاجات والتشنّجات في بلد يعيش على نار متأججة.
بين ذلك البيت ومكتب النائب مسافةٌ قصيرةٌ، وأكثر من أربعين عاماً غيَّرت وجه لبنان، وتحديداً هوية وسط عاصمته.
في عام 1915، راح جد أغوب ضحيةً للمجازر التركية ضد الأرمن، وكان له ابنٌ لم يتجاوز العامين. هذا الابن سيرحل عن ديار بكر حين يبلغ 11 عاماً، ويقيم في وسط بيروت. بعد ثلاثة عقود، سيولد ابنه أغوب. هكذا يبدأ النائب الأرمني برواية سيرته، يتحدث إلينا وهو عائد من تظاهرة جمعت الأرمن في لبنان احتجاجاً على بعض ما جاء في «بروتوكول تطوير العلاقات الثنائية» بين الدولة الأرمينية وتركيا.
يلفت بقرادونيان إلى أن أجداده وبعض أقاربه كانوا من ضحايا المجازر ضد الأرمن، ثم يتوقف عند سنوات الطفولة والشباب والساحة (رياض الصلح) التي لا تهدأ، ولم يتركها إلا مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، لينتقل مع ذويه إلى بكفيا. في ذلك العام، انتسب إلى الجامعة الأميركة في بيروت ليتابع دراسة العلوم السياسية.
بدأ حياته السياسية صغيراً إذا جاز التعبير. انتسب إلى «حزب الطاشناق» وهو ابن 13 عاماً، هكذا سيكون نشاطه الطلابي محطةً طبيعيةً في حياته. وبين عامي 1978 و1980 صار رئيساً لمصلحة طلاب حزبه. في تلك الفترة، أقام صداقات مع وجوه طلابيّة لبنانية وفلسطينية. وهذا النوع من النشاط لن ينتهي بعد انتهاء حياته الجامعية، إذ تسلّم بين عامي 1980 و1985 مسؤولية جمعية الطلاب في «الطاشناق». ومنذ الثمانينيات، صار عضواً في اللجنة المركزية أو في المكتب السياسي للحزب.
بعد تخرجه عام 1980، شغل بقرادونيان مناصب عدّة في التربية والتعليم، فأدار «خان أنامليان»، المدرسة التي تعلّم فيها حتى عام 2000 ثم تولّى إدارة مدرسة أرمنية أخرى هي «لوفن صوفيا هاغوبيان» حتى عام 2005، تاريخ انتخابه نائباً للمرة الأولى. في بلاط السلطة الرابعة، عاش أيضاً، كان صحافياً في مجلة «أستاك» الأرمنية، كما أنه كان في المكتب الصحافي لـ«حزب الطاشناق» وكان يكتب مقالات ترسل إلى جميع صحف الحزب في العالم، وظلّ المسؤول الإعلامي للحزب حتى عام 2000 وعمل في مركز الدراسات الأرمنية.
لا يزال جزء من الصحافي يعيش في بقرادونيان. إجابته عن الأسئلة التي تُطرح عليه قصيرة، واضحة بأفكار مترابطة ومتسلسلة، يقول «لا أحب الكلام الكثير» وهو يعرف كيف يتحدث من دون زيادة أو نقصان. مَن يتابع مقابلاته، يدرك فيه ميزتين: الأولى أنّه سياسي مثقف، خلافاً لحال غالبية نواب لبنان، والثانية أنه صاحب شخصية مرحة، تتسلل المزحة أو الطرفة بين كلماته الهادئة والجدية، يبتسم للحظة ينظر في عيون محدثه، ثم يكمل حديثه.
المطالعة هواية منذ كان طفلاً، يقول «كان عمري 10 أعوام حين بدأت أقصّ من الجرائد مقالات سياسية وصور سياسيين وأحفظها في الدفاتر». بعد 43 عاماً، صارت مكتبة بقرادونيان الخاصة تتألف من 12 ألف كتاب ومجموعات كاملة من الصحف والمجلات. يجد لذة في الكلام عن مجموعاته ـــــ كما يسمّيها ـــــ يتوقف عند بعضها، وهي مجموعات يحرص على اقتنائها، يشتري أعدادها ويقرأها كلها. أما في ميادين الكتب فقراءاته متعددة، في السياسة والفلسفة والتاريخ، يحب السّيَر الذاتية، والأدب، والشعر الأرمني والعربي. وإذا سألته عن تفضيلاته فسيقول «إنه نزار قباني»، مضيفاً «أحب خصوصاً شعره الوطني».
ابن القضية الأرمنية يدرك المعنى الإنساني لمعاناة الواقعين تحت الاحتلال، تشغله القضية الفلسطينية، ويبتهج للكلام عن أرض محررة. يقول إنّه شعر بفرح كبير حين زار عام 1994 الأرض المحررة في حرب 73 وقطع خط بارليف. كان يومها عضواً في وفد لمجلس كنائس الشرق الأوسط، واندهش مرافقون عرب له لشدّة تأثره عندما وطئت قدماه تلك الأرض.
يقول بقرادونيان إنّ الظلم لا دين له ولا قومية، وكذلك هي المقاومة، تؤرقه صور الاعتداءات ضد الأطفال والنساء والرجال في غزة وجنين. وريث الذاكرة الأرمنية، ما زال جرح المجازر يحتل حيزاً مهماً في وعي المنتمين إليها، وهو يضفي على هذا الوعي بعداً عالمياً. هل قلنا ذاكرة أرمنية؟ يبدو والد بقرادونيان واحداً من أهم من نقلوها إليه. لذا، يشدد النائب الحالي على أن وفاة والده عام 2005 هي من المحطات الأكثر إيلاماً في حياته.
بقرادونيان مشغول اليوم بهموم البلاد وأحوال ناخبيه، لا ينقطع عنهم، ولم يتوقف عن كتابة المقالات بالأرمنية، كما أن القراءة تحتل حيزاً من نشاطاته، يومه طويل «يبدأ باكراً ولا ينتهي قبل منتصف الليل». وهو قبل أن ينزوي إلى فراشه، يستسلم لهواياته «أحب جمع الطوابع والنقود القديمة والبطاقات البريدية».
معاناة اللبنانيين تؤرق بقرادونيان، يحلم بيوم لا يكون فيه محتاج في لبنان، وينتقد الخطاب المسيطر «يُقال إن كل شيء جيد، وقد تم إيصال الناس إلى حالة تعتير وتفقير». وبغضب يتحدث عن عقلية تبارك العيش على المساعدات، بدل بناء المجتمع ودفع اللبنانيين إلى التعاضد. أخيراً، إذا سُئل بقرادونيان إن كان ينوي أن يُصدر كتاباً، فسيجيب بشغف «يا ريت، ليتني أكتب كتاباً عن تجربة الشباب ومعاناتهم».


5 تواريخ

1956
الولادة في بيروت

1980
أدار مدرسة «خان أنامليان»

1994
زيارة الأرض المحررة في حرب 1973 وقطع خط بارليف

2000
زار قرى الجنوب المحررة

2009
انتخب بالتزكية نائباً عن المتن الشمالي