على مدى ثلاثة أيام، وفي إطار «بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009» اكتشف عشرات من اللبنانيين والأجانب منطقة زقاق البلاط. التي تشرح الامتداد العمراني في بداية القرن الماضي والخطر الذي يحدق بالأبنية التراثية اليوم
مهى زراقط
اسمه رعد. عامل بناء شاب. الأحد الفائت كان اليوم الثالث الذي يسمع فيه جلبة غير معتادة في الشارع الذي يحتضن قصر حنينة حيث يقيم مع زملائه. مسبّبو الجلبة هم مجموعة من المشاركين في نشاط «الدرب السياحي لاكتشاف زقاق البلاط». يقول إنه لاحظ أن المشاركين يتنقلون بين البيوت القديمة للحيّ، ففكر أنهم قد يحبون دخول أحد هذه البيوت لمشاهدتها، وخاصة أن منظّمي الزيارة لم يعملوا على فتح أبواب أيّ من تلك المنازل التاريخية. ولكن رعد رحّب بالمشاركين وفتح لهم باب قصر حنينة الذي يعود إلى آل مزهر. بني هذا القصر عام 1880 وكان مركزاً للقنصلية الهولندية ثم الأميركية، وتحوّل في عام 1940 إلى المركز الرئيسي للاجتماعات الروحية للدكتور داهش، قبل أن تدير ماري مزهر حنينة الطبقة الأولى منه كمطعم لمدة عامين حتى تاريخ وفاتها عام 1970. يلتفت رجل ستيني إلى زوجته ويقول لها: «هل تتذكرين المطعم؟»، فتجيبه زوجته بأنها تتذكره جيداً، لكنها نسيت اسمه.
العتمة تلفّ المكان. ما إن ننهي صعود الدرج حتى نجد أنفسنا في ممرّ يطلّ على غرف صفّت في اثنتين منها مجموعة من الأسرّة كان ينام عليها بعض العمّال. يقول رعد إن ربّ العمل الذي يعملون لمصلحته هو من سمح لهم بالإقامة في المكان.
المطعم الذي يتذكره الزوجان ليس أهم ما يشعر بأنهما خسراه في الحيّ. تقول السيدة، وهي من آل جبر، إنها شاركت في هذه الجولة لتتذكر المكان الذي كبرت فيه «نحن عنّا بيت قديم هون». تفتح الكتيّب الذي وُزّع على المشاركين، وفيه تاريخ معظم قصور الحي وبيوته والشخصيات التي سكنت فيها، وتتوقف عند الصفحة 21 حيث «المدرسة العالمية اللبنانية». هذه المدرسة كانت بيت العائلة القديم، الذي بني عام 1900 وأُجّرت طبقته الأرضية بعد 68 عاماً إلى المدرسة، وقد غادره أصحابه خلال الحرب بعدما تضرّرت طبقته الثانية.
شقيقات السيدة كنّ يشاركن في الجولة أيضاً. تقترح إحداهنّ الاتصال بابنها المهندس لأنه أكثر من يستطيع أن يشرح تاريخ هذه البيوت وأهمية المحافظة عليها. اقتراح يعزّزه الخوف من بيع هذه البيوت للراغبين في إنشاء مبانٍ ضخمة «وقد رأينا ما حصل في الجميزة». لكن الملاحظة لم تكن تستدعي الوصول إلى الجميزة لتبريرها، فالطريق التي سلكها المشاركون لم تخل من ورش بناء تقوم على أنقاض بيوت تراثية. بل إن الخريطة التي وزّعها المنظمون على المشاركين كانت تشمل زيارة مبنى آل بيهم كمحطة ثانية بعد المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت (قصر آل فرج الله سابقاً). يقف المشاركون قبالة الموقع الذي تدلّ إليه إيمان، دليلهم السياحي، ويسألونها: «أين هو البيت؟». تشير إلى مساحة من الأرض تشهد عمليات حفر وتقول: «هنا كان المنزل». ثم تشرح أنه على الرغم من تصنيف هذا المبنى معلماً أثرياً في التسعينيات من القرن الماضي، إلا أنه هُدم قبل سنوات ليكون آخر بيت يعود إلى آل بيهم في زقاق البلاط. فقد باعت العائلة معظم العقارات التي تملكها في الحيّ لبناء جادة الرئيس فؤاد شهاب (المعروف بجسر الرينغ).
بعد هذا الحديث، لا تعود الجولة صامتة، وخصوصاً أن معظم المشاركين هم من أبناء المنطقة. تخرّجوا من مدارسها، وأحدهم أسهم كمهندس في إعادة ترميم مدرسته القديمة في الثمانينيات (ليسيه عبد القادر). تختلط تعليقات المشاركين بملاحظات سكان الحيّ الذين يتحمسون للإدلاء بمعلوماتهم. ففي وقت كانت فيه المجموعة تقف أمام قصر في حال مزرية، تقول إيمان إنه قصر الشاعر بشارة الخوري، كان رجل يقيم في المنزل المواجه يخبرنا أن هذا القصر لا يعود إلى الرئيس بشارة الخوري ولا حتى إلى الشاعر الأخطل الصغير، بل إلى تاجر يحمل الاسم نفسه، ووريثته تقيم اليوم في أميركا. نسترسل معه في الحديث فنكتشف أنه شخصياً يقيم في منزل الشاعر يوسف الخال.
الجولة التي كان يفترض أن تشمل 28 موقعاً في زقاق البلاط، لكن الوقت لم يسمح بإتمامها كلّها، انتهت أمام المنزل الذي عاشت فيه فيروز حتى زواجها في منتصف الخمسينيات. هناك حاول المشاركون التلصّص على المنزل من خلال كوّة في الجدار ويحاولون التقاط الصور. فجأة، يرتفع صوت مواطن من على سطح أحد الأبنية معلناً منع التصوير. يتلاسن مع سيدة مشاركة في الجولة، قبل أن نعرف أنه مقيم في أحد البيوت التي استملكتها الدولة ولا يريد أن يغادره قبل الحصول على تعويض.
موقف لم يفسد الجولة بل شكل جزءاً منها. الفقدان التدريجي للهوية الذاتية هو حصيلة عوامل عدة ليست الحرب الأهلية وحدها المسؤولة عنه، بل كل تداعياتها بدءاً من مسار إعادة الإعمار وليس انتهاء بمشكلات المهجّرين التي لم تحلّ، إلى عدم وجود قانون يحمي الأبنية التراثية ويصنفها ويمنع هدمها.
فزقاق البلاط هو المنطقة التي تحتضن التطور العمراني في بيروت وخاصة خارج إطار الوسط التجاري، وبيوت المنطقة وأبنيتها الدينية تبرز اختلاط الطوائف فيها وتعطي فكرة عن الحياة في العاصمة خلال القرن الماضي. زقاق البلاط يلخّص بأبنيته «عالمية» بيروت ويبرز التطور الهندسي لأبنيتها. ولكن من سيحمي تلك القصور التي زارها الأهالي بحثاً عن ماضٍ وهوية تبتلعهما الأبراج الحديثة في بيروت؟