حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

يتنافس السياسيّون اللبنانيّون، كما رجال الدين، في إطلاق التحذيرات من ازدياد مستوى الهجرة، وفقدان لبنان خيرة شبابه إلى الخارج. هل هؤلاء صادقون في هواجسهم، أم المقيم والمهاجر أصبحا من عدة شغلهم في تثبيت موازين القوى داخل الكيان الجغرافي؟ القاسم المشترك الذي يجمع بين المقيم والمهاجر أن الجيل الذي بلغ 18 سنة من العمر، عند وقوع الحرب الأهلية، بدأ يُحال على التقاعد، ويفقد كثيراً من ديناميّته للتأثير في المسار الاجتماعي والسياسي. بعد هذا الجيل أصبح مجمل المجتمع اللبناني بشقّيه المقيم والمهاجر، مجتمع حرب وما بعد هذه الحرب. مجتمع منقسم مذهبياً واجتماعياً وحضارياً يجمعه الولاء الغبي في الداخل بتمويل نَزَعيّ قبليّ من الخارج.
في الاقتصاد والاجتماع، أقرب حالة لمقارنة لبنان بها هي إيرلندا قبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. فهذا البلد الصغير نسبياً له امتداد في بلاد الاغتراب يفوق بأضعاف حجم المقيمين فيه، تماماً كما لبنان. ومواطنوه يورّثون التعلّق بالجذور من جيل إلى آخر، كلّ منهم حسب انتمائه المناطقي أو المذهبي، تماماً كما لبنان أيضاً. ولكن في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، أصبحت إيرلندا نموذجاً لبلد ينهض من سبات عميق ليكون رائداً في الثورة والخلق التكنولوجي. لم يعد بلداً ينتظر أهله المقيمون الفقراء العاطلون من العمل تحويلات أترابهم من الخارج. تحوّل الاقتصاد الإيرلندي من اتكاليّ (كما هي الحال في لبنان) إلى إنتاجي من الطراز الأول.
أما لبنان، فبين المقيم والمهاجر قصة تاريخية تحولت إلى مأساة في العلاقة، تؤثّر يومياً في المسار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
سئل موظف في شركة طيران يعمل في الخارج إن كان سيعود إلى لبنان عند تقاعده بعد سنتين، فقال إنه سيزوره ولكنه لن يعود. هذا المنطق أصبح لسان حال أكثر المهاجرين اللبنانيين، وخاصةً في السنوات الأخيرة بعد التحرير عام 2000. تسأل أحدهم لماذا؟ فيقول ببساطة إن لبنان لم يعد كما صوّره لنا أهلنا: بحر ملوّث وبيئة تُدمّر، وكتلة إسمنت وفوضى في الشوارع، وازدحام واختناق، والأهم غياب سلطة مركزية يشعر المواطن من خلالها بالأمان، انحدار أخلاقيّ وانهيار ثقافي. ويلخّص المهاجر أزمته النفسية، التي لا حلّ لها، بأنه يعيش في مجتمعات حضارية لا ينتمي إليها، ويتشوّق دوماً إلى العودة إلى مجتمع وبيئة ينتمي إليهما.
بات المهاجر يشعر بأن المقيم ينظر إليه من باب مصلحي فقط، فهو مصدر التمويل لاستهلاك المقيم، وهو الخزان الذي تلجأ إليه الدولة من خلال المصارف لتمويل عجزها، هو المكمّل أو الرديف للضمان الصحي والضمان الاجتماعي. بكلام آخر هو الأوكسجين الذي يتنفس به المقيم وإلا فسيقضي نحبه. يفعل المهاجر هذا كله بعدة دوافع، منها علاقاته العائلية وواجباته الاجتماعية، وآخرها حبّه للأرض والجذور. يتوق دوماً إلى أن يُعتَرَف له بالجميل، وأن يؤدّي دوراً للنهوض ببلده. يتساءل باستمرار لماذا لا يُستعان باللبناني المهاجر، ويُستفاد من تجاربه الإنتاجية في الخارج لتطبيقها في لبنان، وخاصةً أن معظم القائمين على إدارة البلد لم يغادروه في السنوات الثلاثين الماضية، ليتعرّفوا إلى التحوّلات الجذرية في المنظومة العالمية.
إذاً، للمهاجر أزمة مع نفسه، وأزمة معاملة تبادلية مع المقيم. فالأخير يواجهه بالتشكيك والمنافسة. لسان حال المقيم مع المغترب: «صحيح أنك عاصرت الحداثة في الخارج، لكنني أنا الذي قاومت وصارعت في الداخل للمحافظة على «الكيان» حتى تستطيع أنت زيارته. لا تطمح إلى الإقامة فيه، ولا تصدّق الدعوات المزيّنة، لأن دورك ودوري يتناقضان. فأنت تطالب بالإصلاح، وأنا أعتمد على التسويات. أنت تطمح إلى التغيير السياسي وأنا أعتاش من السياسيين وهم يعتاشون منّي. أنت تؤمن بالوحدة والعيش المشترك وحقوق المواطن واللّامذهبية، وأنا أقول لك اخرج من هذه النظريات لأنك ساذج ولا تعرف نيّات «الآخرين» وأطماعهم فيك، الذين يريدون القضاء عليك».
سنوات مرّت على هذه الممارسة الفكرية بين المقيم والمهاجر. ماذا كانت النتيجة؟ وقع المقيم ضحية سوء تعامله مع المهاجر، وأصبح هو نفسه حالماً مستمراً بالهجرة، لأنه شعر بعد سنوات بالذلّ والهوان في موطنه. ضاق ذرعاً بالتسكّع والتسوّل، يعتاش إمّا من مباركة سلاطين القوم، أو من البؤر العطائية للمذاهب المختلفة. أما المهاجر، فصدّق ما أقنعه به المقيم، بأنه في خطر وجودي مذهبي حتى في عواصم العالم، فجنّد نفسه وعاد بالآلاف في ليلة الانتخابات ليبرهن لـ«الزعيم» أن علمه وخبرته وتجاربه وحضارته لا قيمة لها إلّا في سبيل الطائفة. بلغت نسبة الاقتراع 60% وعاد إلى البرلمان زعماء السنّة والشيعة والدروز والموارنة والأرثوذكس والكاثوليك والأرمن و... أقوى من ذي قبل.
مرّت على الانتخابات الأخيرة أشهر. عاد اللبناني المقيم والمهاجر يسأل لماذا لا تتألف حكومة. وعادت العبارات السخيفة: «أن الجميع مشتركون في جرائم الفساد والإفساد»، وأن «لا أحد أفضل من الآخر، وأنّ المقيم في حالة قرف ستدفعه إلى الهجرة»، وأن «المهاجر لم يعد يفكر في العودة». كيف تُصدَّق كلمات كهذه ونسبة الاقتراع 60%؟ كيف تتساوى في لحظة ما عقلية عالِم الذرّة المهاجر مع عقلية مقيم مستزلم لمرجع سياسي! تجمعهما بشاعة المذهبية؟
وتسألون عن الحرية والسيادة والاستقلال؟ قبل ذلك، هل سأل كلّ من المهاجر والمقيم إن كان حراً وسيداً ومستقلّاً؟