منى عباس فضل *ما الذي يجري في اليمن، تحديداً بين نظام الحكم والحوثيين؟ لا شيء، عدا نزاع اشتعل فتيله منذ 2004 حتى تدحرج ككرة ثلج تولدت عنها حرب طاحنة، يحلّق فيها طيران الجيش ليقصف مواقع الحوثيين في جبال صعده شمالي اليمن والمناطق المحيطة بها. لا شيء سوى مئات من المدنيين القتلى والمعتقلين و150 ألف مشرّد في مخيمات النازحين وآخرين عالقين في مناطق القتال على مرمى من أهداف القصف العسكري، لا تصلهم المساعدات حسب تقارير الأمم المتحدة.
الطرفان، إلى جانب المجابهات العسكرية بينهما، يتبادلان الاتهامات عبر حرب إعلامية مستعرة، كشفت الغطاء عن تآكل السلطة الشرعية وضعف سيطرة حكومتها المركزية على الأراضي واحتكامها إلى القوة العسكرية لحسم الصراع، إلى جانب انعدام فعالياتها وقدرتها على توفير الخدمات العامة، وتفشّي الفساد والجريمة وتجارة السلاح في السوق السوداء، ما دعا بعض المحللين لإطلاق لقب «الدولة الفاشلة» بامتياز على اليمن.
في إطار الصراع، ثمة معطيات تجعل من الحدث أكثر تشابكاً وتعقيداً، مما سيؤدي إلى التدمير الخلاق ليس لليمن بتقسيمها إلى قرى ودويلات متناحرة، بل لدول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصاً مع قرع طبول الحرب بين إيران وإسرائيل، إذا ما فشلت المفاوضات بين إيران وأميركا بشأن ملفها النووي. كيف؟
لا شك بأنّ اليمن يمثل عمقاً استراتيجياً خليجياً وإقليمياً ودولياً لجهة موقعه المطل على سواحل البحر الأحمر وبحر العرب، وإشرافه على مضيق باب المندب، العصب الحيوي للملاحة الدولية الذي تمر عبره ناقلات النفط. اليمن مستهدف في السنوات الأخيرة من تنظيم القاعدة، ما يجعل من استقراره وأمنه ووحدته مصلحة مشتركة بين تلك الأطراف التي عبرت في مناسبات عدة عن وقوفها مع قيادته واستعدادها لمساندتها على مواجهة الأزمات، لا سيما أن تمرد الحوثيين يتمركز في محيط صعدة المتاخمة للسعودية، وهي بالمناسبة منطقة جبلية وعرة وفقيرة أغلب سكانها من الزيديين الشيعة، علماً بأن سكان اليمن يبلغون (19 مليوناً) معظمهم سنّة.
صراع الطرفين له خلفية طائفية تحضر بقوة في خطاباتهما وممارستهما برغم إنكارهما، بل البعض يذهب إلى أن المشكلة أساسها مذهبي، والدلالة دخول السلفيين على خط الاشتباك، لا حباً ودفاعاً عن النظام بقدر ما هو انتصار للمذهب السني. هنا يشير أحد قادة الحوثيين إلى أن الدولة تدفع بالسلفيين للاشتباك معهم استدعاءً للشعور المذهبي والحصول على المزيد من التأييد الشعبي. إلا أن هناك من القبائل من يدعم الحوثيين بوازع الثأر من النظام لما سبّبه من قتل بعض أبنائها في مواجهات سابقة، آخرون يرجعونه لكون الحوثيين يعتبرون النظام غير شرعي ويدعون لإعادة حكم الأئمة الزيديين الذين أُطيحوا في انقلاب عسكري عام 1962، بيد أن زعماءهم ينفون ذلك ويطالبون بنظام ديموقراطي تداولي للسلطة، وحربهم كما يؤكدون ليست سياسية بل دفاعاً عن النفس، ومطالبهم بالحرية الدينية والفكرية لا تعني بالنسبة لهم الدعوة لإعادة دولة الإمامة، فيما يرى مقربون من الحكم أنها حرب سياسية تدور بين الدولة ومجموعات خارجة عن القانون والدستور.
اليمن مرشح لسيناريو فوضى طويلة الأمد وبؤرة مفتوحة لاشتعال فتنة مذهبية
في سياق التجاذبات بشأن أسباب إدامة الصراع وتفاقم خطورته، يرجح قوة تأثير العوامل الداخلية المتمثلة بتدهور الاقتصاد واستنزافه بالإنفاق العسكري، فضلاً عن تصاعد الاحتجاجات الانفصالية في الجنوب، وفعالية تنظيم القاعدة، وما تلعبه الجغرافيا الجبلية في توفير مقارّ آمنة تقي الحوثيين من الضربات العسكرية. أما العوامل الخارجية، فهي تركز على علاقة إيران بما يحدث، وخصوصاً أن السلطات أعلنت عن عثورها على مخازن أسلحة إيرانية الصنع في مواقع الحوثيين، إضافة إلى اتهام السفير الإيراني في القاهرة بتجنيد طلاب يمنيين يدرسون هناك وإرسالهم لطهران. وإذا ما صح الأمر، فهذا يرشح اليمن للتحول إلى ساحة مواجهة بين السعودية وإيران، مع الأخذ في الحسبان أن السعودية تدافع بقوة، كما إيران، عن نفوذها في المنطقة، ولا تريد الوقوع بين كماشة النفوذ الإيراني على حدودها مع العراق واليمن، فهي مدركة تماماً السعي الإيراني إلى الإمساك بأوراق تخدم طهران في مفاوضات الملف النووي.
لقوة تأثير التدخل الإيراني، يشير مقربون من النظام اليمني إلى توسيع الحوثيين مسرح عملياتهم بغية الوصول إلى ساحل البحر الأحمر، لتحقيق هدفين استراتيجيين هما الحصول على الإمدادات اللوجستية الإيرانية لقتال الجيش، وإيجاد موطئ قدم لإيران على البحر الأحمر. من ناحية متصلة، وقوف أميركا مع الحكومة ضد الحوثيين في إطار محاربة الإرهاب، دلالة فاقعة تشي بأن ما يجري هو وجه من وجوه الصراع الأميركي ــــ الإيراني على النفوذ في المنطقة. من جانبه، يسعى الحكم لاستغلال الموقف بالحصول على الدعم الأميركي السياسي والمادي للتخفيف من الضغوط الدولية ضده في ما يتعلق بملف الديموقراطية وحقوق الإنسان.
لكن ما رد الإيرانيين على الاتهامات؟
إيران تنفي ضلوعها في الوقت الذي يتحدث إعلامها بكثافة عن مشاركة الطيران السعودي نظيره اليمني في الهجوم على الحوثيين، وأن السعودية تتدخل في شؤون اليمن الداخلية حين أقامت غرفة عمليات مشتركة يحضرها ضباط سعوديون ويمنيون في منطقة الحدود المحاذية للمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. كما يزعم إعلامها استعانة الجيش اليمني بضباط «عراقيين صدّامين» كمستشارين في تنفيذ العمليات العسكرية والاستفادة من خبراتهم في الصراع مع الأكراد بالنظر إلى تشابه مسرح العمليات في شمال اليمن ووعورة التضاريس. بهذا المعنى، الرياض متورطة في القتال بالطائرات وبدعم الجيش، إذ عثر على سلاح وقاذفات هاون وسيارات تحمل علامات وأرقاماً سعودية.
ماذا عن الدول العربية وجامعتها؟
النظام اليمني، برغم ترحيبه بمساعدة الجامعة العربية للمتضررين، إلا أنه يرفض تدويل الأزمة وتعريبها، وتبريره لذلك أن اليمن دولة مستقلة مركزية لها جيشها ونظامها السياسي الثابت ولديها القدرة على التعامل مع المتمردين. ومع ذلك فقد توصلت قطر مع الطرفين إلى اتفاق عام 2008 قضى بإنهاء الصراع وتسليم الحوثيين سلاحهم والسماح لهم بإنشاء حزب سياسي، وإلزام الحكومة بإعادة إعمار صعدة بتمويل قطري خليجي، لكن على ما يبدو، أفشلت جهات داخلية وخارجية المشروع.
المصريون بدورهم عرضوا خطة غير معلنة تتأسس على دعم الوحدة والدفع باتجاه الحوار مع المعارضة الجنوبية، والضغط على صنعاء بدفعها للاهتمام بالجنوب واعتماد مبدأ الشراكة في الثروة والسلطة. من جهة الحوثيين، تضمنت الخطة المصرية احتواء التمرد، لا سيما أنّ الحوثيّين بحاجة لطوق نجاة يخرجهم من مأزق الحرب. كما وضعت شروط منها وقف إطلاق النار ونزول الحوثيين من الجبال وتسليمهم الأسلحة الثقيلة وعودتهم إلى قراهم ووقف قطع الطرق وإزالة الألغام. عمرو موسى، بمبادرة شخصية في إطار الجامعة، تحرك لحل الأزمة، لكن القتال لا يزال مستمراً.
إذاً اليمن محتقن وعلى شفير حرب أهلية. ما يحدث بالفعل صراع سياسي. «اليمن السعيد» شأنه شأن الدول الفاشلة يعاني من القمع والاقتصاد الهش الذي ينخره الفساد. كل ذلك يجعل منه حتماً مرشحاً لسيناريو فوضى طويلة الأمد وبؤرة مفتوحة لاشتعال فتنة مذهبية بين السنة والشيعة، قد تتفاقم نتائجها وتمتد تأثيراتها إلى دول الجوار والمنطقة، وخصوصاً مع تصوير النظام اليمني الحرب مع الحوثيين بأنها معركة ضد «الأخطبوط الشيعي الإيراني» الذي يهدد المنطقة ويرعبها... وليس إسرائيل طبعاً.
* باحثة من البحرين