عبد العلي حامي الدين*في الأسبوع الأخير من رمضان، وبطريقة استعراضية، قررت مجموعة من الشباب المنتسبين إلى جمعية تزعم الدفاع عن الحريات الفردية، تنظيم نزهة إلى إحدى الغابات بضواحي مدينة المحمدية بالمغرب. كانوا يعتزمون تناول وجبة غداء رمزية بها، وقد تدخلت قوات الأمن لمنع هؤلاء الأشخاص من مغادرة محطة القطار، وفرضت عليهم الرجوع من حيث أتوا.
محاولة هؤلاء الشباب المجاهرة بالإفطار في رمضان تمثل خرقاً صادماً لما تواضع عليه المغاربة من تقدير لحرمة رمضان، واحترام لفريضة الصيام التي تعتبر ركناً من أركان الإسلام الخمسة. وفيه تجاوز لمقتضيات القانون المغربي الذي يجرم الإفطار جهراً في شهر رمضان على كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي دون عذر شرعي.
تدخّل السلطات الأمنية وتحريك المتابعة القضائية في حق المعنيين أثار اهتمام بعض الجمعيات الحقوقية التي انبرت للدفاع عن هذه المبادرة، وطالبت بـ«العمل على وضع الأسس لتدبير العلاقة بين حرية العقيدة كما تنص عليها المواثيق والعهود الدولية، والحرية الفردية التي لا تتعارض مع النظام العام والآداب العامة». موقف بعض الجمعيات الحقوقية استند إلى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، وكذا العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وهي المواد التي تنص على أن «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاته، سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة. كما أن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل...».
وبعيداً من التحليلات التي نحت منحى نظرية المؤامرة، واتهام ضلوع جهات أجنبية في الموضوع، وهو أمر غير مستبعد، فإن ما وقع في المحمدية يستدعي نقاشاً حقيقياً بين الفاعلين في المجال الحقوقي، لمناقشة مفهوم الحرية بنوع من العمق، مع استحضار الغايات الكبرى لفلسفة حقوق الإنسان كما تبلورت في سياقات وأزمنة حضارية مختلفة، في علاقتها بالإيمان وبالمعتقدات الدينية عامة.
قبل بضع سنوات، وفي سياق تأسيس منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، تذكرت نقاشاً من هذا النوع ونحن نستعد لإطلاق مبادرة المنتدى، وقد كانت قناعة معظمنا بأن حقوق الإنسان كما تبلورت في المواثيق الدولية لا تتعارض مع المرجعية الإسلامية لحقوق الإنسان، إلا في النزر اليسير، ولذلك أعطينا لأنفسنا حق التحفظ على هذا النزر اليسير الذي قد يتعارض مع قطعيات الدين. لكن بالرجوع إلى فلسفة الحرية عند منظريها الأوائل، لا نعثر على هذه المضامين المتحررة من كل الضوابط التي يحاول البعض أن يلبسها لمفهوم الحرية، ليجعله مفهوماً مطلقاً لا يخضع لأية معطيات اجتماعية أو ثقافية أو غيرها. بل منذ البداية، كان هناك اعتراف بأننا إزاء مفهوم معقد وقابل للعديد من التفسيرات، وبالتالي لا يمكن فهمه عقلانياً (حسب جون لوك مثلاً) إلا إذا درس على أساس فهم طبيعة الإنسان، والغاية من خلقه أصلاً. ولذلك يؤكد لوك (1588ــــ1679) في كتابه «محاولة في الفهم البشري»، أن الحرية ينبغي أن تستخدم لأهداف ذات معنى، والهدف الأساسي من الحرية هو الحصول على السعادة الأبدية، ويؤكد أن الله لم يخلقنا بدون دليل ولا غاية، وأن الالتزام بقوانين الله وأوامره يحدد حريتنا بحيث يتحقق لأرواحنا الفلاح الأبدي والسعادة الأبدية.
إن الوضع الطبيعي الذي يتمتع فيه الناس بالحرية الطبيعية، حسب لوك، ليس وضعاً فوضوياً، فللناس في ظل هذا الوضع حرية غير قابلة للتحديد، ورغم ذلك فهم ليسوا أحراراً كي يقضي كل منهم على الآخر. فالوضع الطبيعي هو الذي يلتزم فيه الأفراد بعدم إلحاق الضرر بحياة الآخرين وسلامتهم وحريتهم وأموالهم ومشاعرهم. يقول لوك: «على الناس جميعاً أن يعلموا أنهم مظهر براعة قادر مطلق وصانع عاقل حكيم لا يتناهى، وأنهم أتوا إلى الدنيا على أساس أمره وحسب مشيئته، فهم مملوكون له، وتجلٍّ لقدرته، خلقوا من أجل أن يستمروا على مدى سعادته». إن نظرة هذا الفيلسوف للحرية هي أن الإنسان محدد بواسطة إرادة الله وقانونه، وتقوم حريته على هذا الأساس، ولذلك لا يعد الوضع الطبيعي وضعاً فوضوياً يحدد فيه كل فرد مضمونه للحرية كما يشاء من أجل أن يفعل ما يشاء متى شاء، بل هو وضع يشعر فيه المواطنون بالمسؤولية إزاء «القانون الطبيعي» بتعبير لوك. والشعور بالمسؤولية إزاء القانون الطبيعي هو ناجم في الحقيقة عن شعورهم بالمسؤولية أمام الله كخالق ومشرع.
لكن هذه النظرة كانت مرتبطة بمفهوم الإنسان المتأثّرة بالنظرة الإيمانية للكون والحياة، وهي نظرة خضعت للكثير من التغيير مع عصر النهضة الأوروبية، وبالخصوص في تصورات ما يسمى بـ«النزعة الإنسانية» (القرن السابع عشر) التي قامت على أساس إعادة الاعتبار إلى الفرد البشري، وتحريره من الشعور بوزر «الخطيئة الأصلية» (خطيئة آدم)، وتحريره أيضاً من قبضة الكنيسة وهيمنتها على حياته الروحية، كما عملت هذه النزعة على تحرير جسده وحياته المادية من هيمنة سلطة «الأمير» ونزعة استعباد الناس بعضهم بعضاً. أما النظرة للإنسان، فجاءت مختلفة في السياق الإسلامي، فهي متحررة من عقدة الإحساس بالخطيئة (خطيئة آدم)، ومن عقدة هيمنة الكنيسة على المجال الروحي والزمني، بل جاءت معززة بتكريم الله للإنسان بالعقل ومنحه القدرة على التمييز وتفضيله على باقي المخلوقات ومنحه الحرية ليختار ما يشاء، بما في ذلك حرية الاعتقاد وحرية الإيمان ونبذ الإكراه على الاعتقاد.
ومن القضايا التي تثار حول حرية الاعتقاد في الإسلام قضية الارتداد، وقد ميز فيها التصور الإسلامي بين نوعين: الارتداد الفردي الذي لا يمس المجتمع والدولة في شيء، وهذا ليس في القرآن ما ينص على عقوبته، بل يتوعده الله في العقاب في الآخرة، ويبقى

ثمّة صناعة لنماذج من التطرّف اللاديني تحت مسمّى الحريات الفردية وحقوق الإنسان

باب التوبة مفتوحاً أمامه. أما الارتداد المنظم الذي يتجاوز تبديل الدين إلى إعلان الحرب على الإسلام، فحكمه حكم آخر لأنه ينتقل إلى مجال «الخيانة» للوطن وللمجتمع وللدولة، وهو ما يستوجب إلحاق العقوبة. إن ما أقدم عليه شباب «مالي» من محاولة الجهر بالإفطار في رمضان هو في الظاهر ليس تعبيراً عن الحرية الفردية، بل هو تحلل علني من مسؤولية اجتماعية وأخلاقية مفروضة عليهم بحكم انتمائهم الديني كمسلمين، وهو اعتداء على حق من الحقوق العامة للمغاربة المسلمين (مجال الدين)، وتجاوز لمقوّم من مقوّمات الاجتماع الإنساني على أرضية الثوابت المجمع عليها ما داموا يصرحون بأنهم مسلمون. لكن هذه الخطوة تعبر في الباطن عن أزمة أكثر عمقاً، تدين منظومتنا التعليمية والتربوية والثقافية والإعلامية، وكل الجهات المسؤولة عن إنتاج القيم التي وفرت البيئة المناسبة لهذا النوع من التطرف في التفكير.
لقد كانت صدمة الأحداث الإرهابية لـ16 أيار/ مايو بالدار البيضاء مناسبة لإعادة النظر في ترتيب الحقل الديني وإعادة تأهيله لمحاربة التطرف الديني. وأعتقد أن صدمة الإقدام المنظم على الإفطار في رمضان هي مناسبة لفتح نقاش عميق حول أنماط من التعليم والثقافة والإعلام تسهم في صناعة نماذج من التطرف اللاديني تحت مسمى الحريات الفردية وحقوق الإنسان وهو ما ينبغي الانتباه إليه.
إنه لمن المخجل حقّاً أن يحرص بعض المسيحيّين الذين يقيمون بيننا على احترام شعيرة الصيام، وأعرف شخصياً منهم من يعدّل برنامجه الغذائي ليستقيم مع نظام المطاعم في رمضان، حرصاً على عدم استفزاز مشاعر ملايين المسلمين، مع أن إفطاره العلني في رمضان حق من حقوقه الكاملة التي ينبغي للمجتمع أن يحترمها!! إنه الفهم الحقيقي للحرية. أما ما حصل آخر رمضان فهو شيء آخر لم نفهمه بعد!
* باحث وعضو المجلس الوطني
لحزب العدالة والتنمية المغربي