علاء اللامي*دشّن السيد عمار الحكيم عهده، بعدما تقلّد منصب والده الراحل السيد عبد العزيز الحكيم، زعيماً لحزب المجلس الإسلامي الأعلى وقائمة الائتلاف، بتغييرين عميقين وتلميحات بتغييرات أخرى في السياسة العامة والتقليدية للحزب. التغيير الأول يمكن اعتباره بداية إعلامية أو تلميحاً لفظياً لفكّ عرى التحالف التقليدي بينه وبين التحالف الكردستاني بصدد قضية محافظة كركوك، التي يطالب الأكراد بإلحاقها بإقليمهم شبه المستقل اعتماداً على مادة دستورية خلافية هي المادة 140. وعلى هذا سيكون السيد عادل عبد المهدي، الذي عُدّ مهندس التحالف بين المجلس والكردستاني، نافلاً بعد هذه التغييرات. ففي تصريح علنيّ، أكد الحكيم الابن مبدأ عراقية كركوك، وكونها صورة مجتمعية مصغّرة للعراق، وهو الموقف الذي تتخذه جميع الأحزاب والقوى والشخصيات العراقية العربية والتركمانية.
يأتي هذا التغيير ليقارب موقف حزب رئيس الوزراء نوري المالكي وقائمته، الذي لوحظ أنه ازداد تشدداً بخصوص عراقية كركوك رغم ما قُدِّم من تنازلات في زيارة المالكي اليتيمة إلى الشمال العراقي قبل أسابيع، ولقائه قادة الإقليم الكردي، تضمنت اعترافه وتعهده بتطبيق مواد الدستور ذات الصلة بقضية كركوك. غير أن قرار الحكومة بخفض نسبة ميزانية الإقليم من 17% إلى 13%، وشطبها للمبالغ المخصصة لتمويل الميليشيات الكردية “البيشمركة” قبل أيام قليلة، وتردّدها في تنفيذ بعض ما جرى الاتفاق عليه بخصوص قضايا أخرى، جعل العلاقة بين حزب المالكي وقائمته الانتخابية، الطامحة إلى الموقع البرلماني الأول، وبين القادة الأكراد تعود إلى عهد الجمود والتوتر التقليديّين.
في هذه الأجواء السياسية، نقرأ التغيير الذي أقدم عليه الزعيم الجديد لحزب المجلس الأعلى كنوع من التمهيد لتنافس انتخابي شرس بينه وبين قائمة المالكي على أصوات العرب والتركمان في كركوك أولاً، والعرب والتركمان الشيعة في عموم العراق ثانياً. ومع ترسّخ الاعتقاد بأن معركة السيد الحكيم وقائمته العريضة مع القائمة المنافسة لن تكون سهلة، بل قد تكون محسومة سلفاً لغير صالحه، فإن اللجوء إلى التخلي عن بعض المرتكزات السياسية القديمة للحزب بات ضرورياً كما يبدو.
معروف أن حزب السيد الحكيم هو الطرف السياسي الوحيد ـــــ طبعاً بعد الحزب الشيوعي/ جناح موسى ـــــ الذي ظلّ متمسكاً بتحالفه مع الأحزاب القومية الكردية، وهو الوحيد الذي خاض إلى جانب الكردستاني معركة ضد المادة 23، التي تتضمن الدعوة إترسيم وضع إداري وسياسي خاص بمحافظة كركوك، يحميها من محاولات الأكراد لإلحاقها بإقليمهم، والتي نجحت القوى العراقية الأخرى في تمريرها بعد مجابهة عنيفة عبر البرلمان في عهد رئيسه السابق محمود المشهداني. وكان موقف حزب الحكيم حازماً لدرجة أن ممثّليه انسحبوا من جلسة البرلمان تلك تضامناً مع التحالف الكردستاني. فهل سيداوي التغيير الجديد الذي أقدم عليه الحكيم الابن الآثار التي خلّفتها مواقف حزب المجلس الأعلى وقائمته في عهد الحكيم الأب؟ هذا ما يتردّد الكثيرون في الإجابة عنه بالإيجاب، في الوقت الحاضر على الأقل.
التغيير الثاني الذي اتخذه الحكيم الابن، والذي وصفه مراقبون بأنه مثير ودراماتيكي، يتناول موقفه من حزب البعث. ففي لقاء مع تلفزيون “السومرية”، أدلى الحكيم الابن بتصريح دعا فيه “القوى السياسية إلى التخلي عن عقلية المعارضة والثأر”، وأشار إلى أن البعثيين الذين لم يطلبهم القضاء العراقي لهم حق العودة الطبيعية إلى بناء وطنهم، بعيداً عن الماضي. والجديد في الموضوع هو أن الحكيم لم يمتنع عن المصالحة حتى مع “الصدّاميّين” حسب وصفه، شريطة “استبعادهم عن الوزارات ودوائر الدولة القريبة من القرار، والحذر منهم ووضعهم تحت دائرة المراقبة”. نستنتج من هذا التصريح أنّه:
- جرى التخلي عن الموقف القديم والقائم على العقلية الانتقامية الثأرية بما يستتبعها من تصفيات دموية خارج القانون.
- جرى التخلي عن قرارات حرمان ومحاربة البعثيين ومن ضمنهم “الصدّاميّين” غير الملاحقين قضائياً، وخصوصاً حرمانهم العودة إلى الوطن، والعمل في دوائر الدولة، مع بعض الاستثناءات الخاصة بالوزارات الأمنية، حيث نقرأ في توضيح صدر عن مكتب الحكيم بعد تصريحاته لقناة “السومرية”، جاء فيه: “وهناك من البعثيين من كان يشغل مواقع مسؤولية في مؤسسات الدولة، أو له مواقع متقدمة في حزب البعث، ولكن لم يثبت تورطه بإساءة إلى العراقيين، ولم يطلبه القضاء العراقي، حيث فتح قانون المساءلة والعدالة نافذة لإعادتهم إلى وظائفهم، باستثناء وزارات الأمن والخارجية والمال ضمن سياقات محددة”.
تباينت ردود الفعل على هذه التصريحات. فجبهة “التوافق” التي تدّعي تمثيل العرب السنّة، وتتولى عادة الدفاع عن البعث، وتعارض قانون الاجتثاث القديم والجديد، لم تبدِ حماسة كبيرة. فقالت النائبة رجاء حمدون “إن ملف البعثيين أصبح سياسياً أكثر مما هو قضائي، فقد كان من المفترض نقل الملف إلى القضاء ليكون هو الفيصل الوحيد، وأن البعثيين اليوم مطاردون بكل تفصيلاتهم، بغضّ النظر عن المذنب وغير المذنب”. تتعدّد التفسيرات لموقف “التوافق” هذا، فالبعض يرى أن الجبهة تخشى من منافسة أصدقاء البعث السياسيين لها على جمهورها في طائفة العرب السنّة، ومنهم من يفسره بفقدان الثقة بالتصريحات السياسية التي تطلق خلال المنافسات الانتخابية بقصد الترويج والاستهلاك المؤقت والمحلي.
كما لوحظ أنه لم يصدر حتى الآن أي موقف عن حزب البعث بشقّيه (الدوري والأحمد). أما المقربون من قيادة “حزب الدعوة” بقيادة المالكي، فقد سارعوا إلى اعتبار هذه التصريحات محاولة للاستقطاب الانتخابي المبكر، فيما رأى مراقبون أن من حق المالكي ومؤيديه أن يتساءلوا عن أسباب هذا التوجه الجديد للحكيم الابن، بعدما شنّ حزب المجلس وحلفاؤه هجوماً كاسحاً على المالكي وحزبه حين اقترب مجرد اقتراب، قبل بضعة أشهر، من فكرة التفاوض أو التواصل مع البعث وبعض قادته غير الملطّخة أيديهم بدماء العراقيين، فتدخّلت إيران بكل ثقلها إلى جانب حزب المجلس الأعلى، وسارع عادل عبد المهدي، ممثل هذا الحزب في هيئة رئاسة الدولة إلى استقدام أحد ممثلي البعث/ جناح سوريا لإفشال وتبهيت مساعي المالكي، مما أرغم هذا الأخير على التراجع عن مشروعه ذاك.

التغيير الذي أقدم عليه عمار الحكيم يُعدّ نوعاً من التمهيد لتنافس انتخابي بينه وبين قائمة المالكي

إضافةً إلى كل ما سبق، ثمّة تلميحات وجلة لتغييرات أخرى على مضمون ركيزتين في سياسات حزب الحكيم. الأولى، وتتعلق بشعار ومطلب قيام “فدرالية الوسط والجنوب” الطائفية البواعث والأهداف، الذي دافع عنه حزب الحكيم طويلاً، حيث صدرت تلميحات إلى أنّ الحزب ليس في صدد الدفاع أو المطالبة بتحقيق هذا الهدف “في الظروف الراهنة”. والركيزة الثانية تتعلق بعروبة العراق وانتمائه إلى المحيط العربي والإسلامي، حيث قال السيد الحكيم الابن في الخطاب المطوّل الذي ألقاه بمناسبة تشييع والده، إن العراق بلد عربي ينتمي إلى محيطه العربي والإسلامي، وهذا أمر نادر، إن لم نقل معدوم الوجود في أدبيات حزب الحكيم.
إنه من المفيد التفكير في جملة الأسباب التي دفعت الحكيم الابن إلى تبني هذه التغييرات وعدم الركون إلى نوع واحد منها. فالبعض يفسرها بالوضع الانتخابي الحرج للحزب، أو بالقناعات الحقيقية لبعض المحيطين بالحكيم الابن من أعضاء طاقمه القيادي، الذين وجدوا فرصتهم الآن فحسب للظهور إلى الفعل والعلن. وثمة من يفسرها بالضغوط الأميركية من أجل إحداث ما يسمونه “مصالحة سياسية حقيقية لا تستثني البعث”، وهذه الضغوط لم تنقطع يوماً، ولا جديد فيها. ولعل الأقرب إلى المنطق والجو السياسي العام هو ذلك التفسير الذي يجد في تلك التغييرات مجرد محاولة لتلافي “أخطاء الماضي” ذات الأسباب العاطفية والعقائدية، وتبنّي سياسات براغماتية واضحة المعالم بهدف الصمود أمام الاكتساح المتوقع لقائمة المالكي، التي ترفع الشعارات المناوئة للطائفية والفساد وعنف الميليشيات، وتقترب بحذر من صبوات العرب السنّة من غير الطائفيين، ولتلافي خسارة فادحة في الانتخابات القادمة، قد تصل إلى درجة الخروج من الساحة السياسية تماماً. فهل سينجح العطّار الانتخابي في إصلاح ما أفسده الدهر السياسي الطائفي؟
* كاتب عراقي