Strong>حسين بن حمزةما كان ممكناً لعبد الله الغذامي إلا أن يصبح كاتباً. فقد أبقاه والده المهتم بالكتب التراثية في البيت، لاعتقاده بأن الشارع سيُفسد ابنه الصغير. البقاء في البيت جعل القراءة هوايةً وحيدة للصبي المحكوم بـ«الإقامة الجبرية». بمرور الوقت، تحوّلت العلاقة التي بدأت بأمرٍ أبوي إلى شغف خالص، فعاش حياةً أقرب إلى الخيال مع شخصيات مقيمة في صفحات الكتب ولا يُُشاهد مثلها في الشارع والحي والمدرسة. روى ذات مرة حكاية من كتاب «العقد الفريد» لزملاء له في المدرسة. ثم توقف عن ذلك حين استغربوا ذلك وضحكوا منه. إقامته في الخيال كانت تجعله يشرد أحياناً فيحسب بعضهم أنه غير طبيعي. الكتب أضرَّت به اجتماعياً. استمر ذلك حتى اليوم، فظلَّ شخصاً قليل الصداقات وبلا حياة اجتماعية واسعة.
الاستغراب الذي وُوجِه به في صغره تكرّر مع صدور كتابه الأول «الخطيئة والتكفير/ من البنيوية إلى التشريحية»، وهو دراسة في أعمال الشاعر السعودي حمزة شحاتة. بدا الكتاب مثل نبت شيطاني، وبدا صاحبه حداثياً بلا نسب في الفضاء الثقافي السعودي الذي لم يكن قد احتكَّ بعد بأسئلة النقد الحديث ومناهجه. لم يصدّق كثيرون أن مؤلف الكتاب سعودي. قبل صدور كتابه بسنة، نشر أول بحث له في مجلة تونسية، وكان دراسة سيميولوجية عن أبي القاسم الشابي، فوُضع اسم «المغرب» إلى جوار اسمه في نهاية البحث! في القاهرة، سُئل إن كان سعودياً بالأصل أم هو مجنَّس. وفي بلده، عامله منتقدوه كأنه نبت شيطاني فعلاً، وراحوا يبحثون عن معانٍ سلبية في كُنية «الغذامي» لإثبات شكوكهم في سعوديته.
الشاب المتحمس الذي ذهب إلى بريطانيا في بداية السبعينيات ليدرس في قسم اللغات الشرقية في «جامعة إكستر»، لم يكن يريد أن يُنجز شيئاً مشابهاً لما قرأه عند مندور ومحمد غنيمي هلال وسواهما من مشاهير النقّاد العرب. ما معنى أن أدرس سبع سنوات في الغرب إذا عدتُ بالصيغة نفسها التي ذهبت بها؟ سأل نفسه. كانت البنيوية سائدة وقتها فوجد فيها ضالَّته.
نشر الغذامي باكورته النقدية في الأربعين. يُعيد تأخره إلى تعيينه أستاذاً في «جامعة الملك عبد العزيز» في جدة. كانت الجامعة جديدة، فتسلم مناصب إدارية إلى جانب عمله التدريسي. لعل غزارة إنتاجه محاولة غير واعية لاستدراك تأخره في البداية. يستسيغ صاحب «المرأة واللغة» هذه الفكرة، لكنه يقرّ بأنه مدين بذلك لأسئلة طلبته وانتقادات خصومه. استقبل انتقادات خصومه بإيجابية، فانتهى هؤلاء بأن خدموا مشروعه النقدي والثقافي. خاض صاحب «ثقافة الأسئلة» سجالات عديدة مع السلفيين. ترافق ذلك مع تأسيس «النادي الثقافي الأدبي» في جدة أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، أي الفترة التي شهدت الظهور المتزامن للحداثة والصحوة الإسلامية معاً في السعودية. يؤكد الغذامي أن التجربة أفادت المجتمع السعودي على المستوى الاجتماعي والثقافي، وأن الجلسات الملتهبة للنادي كانت اختباراً ممتازاً لأفكار الحداثيين. المشكلة مع السلفيّين أنّهم هاجموه من دون أن يتفهموا أطروحاته. أحدهم، وهو عوض القرني، ألّف كتاباً عن الحداثة في ميزان الإسلام، وهو لا يعرف الحداثة حتى يحاكمها. أما المشكلة مع حداثيين مثل أدونيس ومحمود أمين العالم، فيُعيدها الغذامي إلى إخلاصه لعقله وأفكاره، لا إلى الصداقات والمجاملات، ويسجِّل للعالم «تعامله الراقي مع النقد اللاذع الذي وجّهه له، بعكس أدونيس الذي لا يحتمل فكرة أن ينتقده أحد».
إلى جوار عمله الجامعي ومؤلفاته ومساهمته الفعالة في نادي جدة، يكتب الغذامي منذ الثمانينيات مقالاً صحافياً في جريدة «الرياض». يصف مقالاته بأنها تسريبات لأفكار كتبه المقبلة، إذْ يعاين من خلالها تلقي القارئ اليومي لها. يقول إن الكتابة في الصحافة طوّرت أفكاره وصقلتها، مشبِّهاً الأمر ببروفات المسرحيين للوصول إلى الصيغة الأمثل للعرض المسرحي.
في حداثةٍ بِكْر، وفي مجتمع محافظ، ينبغي معاملة الجهد النقدي للغذامي بوصفه ممارسة ثقافية ريادية. إنه من طينة الشخصيات التي تحتاج إليهم مجتمعاتهم في لحظات التغير الثقافي والاجتماعي. يكتسب حضور الغذامي معانيَ إضافية لكونه طرق أبواباً كثيرة واشتغل على مشروعات ثقافية عديدة، فكتب في البنيوية، والنقد الثقافي كبديل أوسع للنقد الأدبي، والمرأة واللغة، وثقافة الوهم، مهتدياً إلى لغة سلسة وقريبة من متناول القارئ المختص والعادي. العلاقة اليومية مع طلابه والكتابة في الصحافة درَّبتاه على الوصول إلى نبرة تمزج بين الرصانة المنهجية واللغة اليومية. استثمر هذه النبرة في إنجاز أبحاث ومؤلفات تخاطب النخبة والجماهير معاً. بحسب رأيه، لا بد للمثقف الجاد من أن يصل إلى الجمهور العريض لأن الصيغ الأكاديمية تعوق أحياناً رواج بعض الأفكار وانتشارها. يتضح ذلك من عناوين مثل: «الثقافة التلفزيونية/ سقوط النخبة وبروز الشعبي» و«حكاية سحّارة/ حكايات وأكاذيب» و«حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» والكتاب الأخير أثار نقاشاً واسعاً.
هذا الناقد والمثقف الحداثي الذي وصل إلى جمهور عربي واسع، مغرباً ومشرقاً، لا يقدّم نفسه كـ«سعودي» أو «خليجي». إنّه يسخر من نظرية المركز والأطراف التي يقوّم المنجز الثقافي والأدبي من خلالها بحسب الجغرافيا. يقول إن العمل الجيد سيفرض نفسه بصرف النظر عن جنسية صاحبه وانتمائه، ويستنكر مجاملة بعض النقاد لأعمال رديئة من الأطراف بهدف تشجيعها، ويعدد أمثلة كالطيب صالح وقاسم حداد وعبد العزيز المقالح والشابي... «هؤلاء وجدت نصوصهم حفاوة ومكانة مميزة في المركز».
أما نحن، فعلينا ألا ننسى أن نضيف اسم ضيفنا نفسه إلى قائمة الذين فرضوا علينا نصوصهم. «النص في النهاية هو الوطن الحقيقي للكاتب» يقول لنا الغذامي.


5 تواريخ

1946
الولادة في عنيزة (السعودية)

1978
تخرّج من «جامعة إكستر» في بريطانيا، وعُيِّن أستاذاً لمادة النقد والنظرية في جامعة الملك عبد العزيز في جدة.

1985
نشر كتابه الأول «الخطيئة والتكفير» (النادي الثقافي الأدبي ــ جدة)

1999
حصل على «جائزة سلطان العويس» عن مجمل أعماله النقدية

2009
صدر كتابه «القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة» (المركز الثقافي العربي)